في شهر أغسطس/آب من كل عام، تشرّع عائلتنا في ممارسة إحدى الطقوس الأمريكية العظيمة، وهي السفر بالسيارة. وعلى الدوام نتجه شمالاً. قد لا تكون كندا أكثر المقاصد تشويقاً، لكن استخدامنا لذلك التعبير قد يكون مبالغا فيه أحياناً.
تغرينا كندا لزيارتها بما تتمتع به من الألفة، والطقس البارد الممتع، والأهم من كل هذا، ذلك المنبع الكبير للطف وحسن المعاملة.
نشعر بلطافة الكنديين منذ اللحظة التي نصل فيها إلى قسم الجمارك بالمطارات. فبينما يعاملك موظفو الجمارك على الحدود الأمريكية بقسوة، وربما تجرد من المشاعر، تجد الكنديين مهذبين جدا، ولا يبدون لك أي كلل أو ملل. حتى عندما يسألوننا عن عدد زجاجات النبيذ التي نحملها معنا إلى بلادهم مثلا.
في إحدى المرات، لم ننتبه إلى أن جواز سفر ابنتنا البالغة من العمر 9 أعوام قد انتهت فترة صلاحيته، لكنهم مع ذلك تركونا ندخل وبكل لطف. وقد استمرت معاملتهم اللطيفة لنا طوال رحلتنا، وقد التقينا بالعديد من الأشخاص المهذبين واللطفاء، بداية من نُدُل المطاعم، ومرورا بموظفي الفنادق، وحتى الغرباء على أرضها.
تعد المعاملة اللطيفة التي تعرف بها كندا نقية، ولم تلوثها النبرة السلبية والعدوانية المبطنة الموجودة في اللطافة الأمريكية، مثلما في التعبير (أتمنى لك يوماً سعيداً، وإلا!)، والذي يوجد بكثرة في الولايات المتحدة.
كندا والكياسة مرتبطتان معا كارتباط المملكة السعودية والنفط. فكندا تفيض بمثل هذه المعاملة الحسنة، وأعتقد أنه قد آن الأوان لكي يستورد العالم منها شيئاً ما. (وخاصة بعد أن جاءت فرنسا وروسيا والمملكة المتحدة مؤخراً في مقدمة الدول الأكثر فَظَّاظة، وفقا لاستطلاع لآراء المسافرين.)
لا يزال على الباحثين أن يحللوا تلك المعاملة الحسنة في كندا بشكل عملي. لكن الدراسات كشفت أن الكنديين، ربما في محاولة منهم لعدم جرح مشاعر الآخرين، يستخدمون بشكل مفرط ما يعرف بـ "كلمات الحيطة"، مثل "هل من الممكن" و "هذا لا يبدو سيئاً". ثم هناك بالطبع أكثر كلمة مرغوبة لدى الكنديين، وهي "معذرة".
إذ يمكن للكنديين أن يعتذروا عن أي شيء ولأي شيء أيضا. يقول مايكل فالبي، وهو كاتب وصحفي كندي: "لقد اعتذرتُ لشجرةٍ اصطدمت بها ذات مرة أثناء سيري." ويشير فالبي إلى أن العديدين من مواطني كندا قد فعلوا نفس الشيء.
ربما تجد حركة المرور في تورنتو ومونتريال فظيعة، ولكنك "لن تسمع على الإطلاق تقريبا أي صوت لبوق سيارة حتى عند حصول أكثر الاختناقات المرورية إحباطاً وإثارةً للأعصاب،" وفقا لما قاله الكندي جيفري دفوركين، أستاذ الصحافة بجامعة تورنتو.
يُعتبر استعمال آلة التنبيه في السيارة من الأمور العدوانية غير الضرورية. حتى معدلات جرائم القتل منخفضة في كندا، كما يقول دفوركين، ويعود ذلك جزئياً إلى أن ذلك "أمرٌ في غاية الوقاحة أن تقتل شخصاً."
تعجّ الصحافة الكندية بالأمثلة على الكياسة التامة. على سبيل المثال لا الحصر، أوردت صحيفة "ناشنال بوست" أن طالباً في كلية الحقوق بمدينة إدمنتون، واسمه ديريك مرّي، نسي إطفاء أضواء سيارته طوال أحد الأيام.
وعندما عاد إلى سيارته، كانت طاقة البطارية قد نفدت، وقد وجد ورقة صغيرة على زجاج مقدمة السيارة كُتب فيها: "لاحظت عدم إطفائك الأضواء، ومن المحتمل أنه لن يبقى في بطارية السيارة ما يكفي لتشغيلها. وقد تركتُ لك وصلة سلك كهربائي أزرق اللون على السياج، وشاحن للبطارية على جانب السياج داخل صندوق من الورق المقوى." ثم ترك كاتب المذكرة شرحا مفصلا لكيفية البدء في تشغيل السيارة، مضيفاً: "حظاً سعيداً".
في أونتاريو، أعاد سارقٌ حاجيات مسروقة إلى صاحبها مع ورقة نقدية بمبلغ 50 دولاراً أمريكياً ورسالة إعتذار جاء فيها: "لا أستطيع أن أجد الكلمات المناسبة لأعبر عن مدى اعتذاري،" كما يوضح السارق أو السارقة. "أرجو أن تغفروا من أعماق قلوبكم للغريب الذي سبب لكم الألم."
ليس الكنديين مهذبون فحسب؛ لكنهم متواضعون بشكل لا يصدق أيضاً. كما أنهم يمانعون تلقي قبول عبارات الثناء على عمل قاموا به حتى لو كان عملا بطوليا بشكل جلي. في أكتوبر/تشرين الأول عام 2014، هاجم رجل مسلح مبنى البرلمان الكندي.
استجاب "كيفن فيكرز"، رقيب الشرطة الكندي المسلح، بسرعة وهدوء، وأطلق النار على المهاجم مستعملاً مسدسه الذي كان يحتفظ به في مكتبه. وفي الوقت الذي جرى فيه تقدير دور "فيكرز" في الوسط الإعلامي الكندي، فقد كان تواضعه، وليس تصويبه السديد أو شجاعته، هو ما احتفوا به. (إذ يفتخر الكنديون بجلالٍ بتواضعهم؛ ويحمل ذلك الجمع بين التعبيرين تناقضا ظاهريا، لكنه لا يسبب مشكلة لأحداً.)
ما الذي يفسر هذا الكم من التواضع والكياسة لديهم؟ يعتقد تاراس غريسكو، وهو كاتب كندي يقيم في مونتريال أن كياسة الكنديين أوجدتها الضرورة.
ويضيف: "نحن شعب قليل العدد، وننتشر على رقعة من الأرض تعتبر الثانية عالمياً من حيث كبر المساحة. وقد أدركنا دوماً أنه لغرض البقاء على قيد الحياة– أو لمجرد المحافظة على رجاحة عقولنا- ينبغي علينا مراعاة شعور الآخر: تلك المرأة العجوز في آخر الشارع، وذلك المراهق في موقف الباص الذي نسي أن يجلب معه ما تتطلبه درجة حرارة منخفضة لخمس درجات تحت الصفر. من هنا جاءت رغبتنا العامة في تقديم المساعدة لا العداوة."
ينبع التفسير الآخر لكياسة الكنديين مما يعرف بـ "نظرية التشرذم"، والتي طرحت لأول مرة من قبل الأكاديمي الأمريكي لويز هارتز، وتفيد بأن المجتمعات الاستعمارية، مثل الولايات المتحدة الأمريكية، وكندا، بدأت كـ "مجموعات متشرذمة" من الأقوام الأوروبية التي هربت من بلادها.
تبقى الشعوب الجديدة هذه، واقعياً، وكأنها تجمدت زمنياً. لذا، تبقى كندا محافظة على مقاومة التغيير، ومتّبعة لنزعة المحافظين– أي أنها أكثر مراعاة لمشاعر الآخرين، ولديها خصال أكثر لطفا وكياسة من تلك التي تبنّاها الآباء المؤسسون، أو المشاكسون الأمريكيون.
لا يظن الجميع أن ذلك أمر جيد. ويعتقد فالبي أن لطافة الكنديين موقف دفاعي "ينبع من شعور ما بالنقص، وإدراك ما بأن ملابسنا لا تناسبنا تماماً، وأننا دوماً نحلق شعرنا بشكل سيء، ولا نقوم حقيقةً بأي عمل رائع."
إضافة إلى ذلك، تتفاقم المشاكل أحياناً في أرض الكياسة تلك، لأن الجميع لطفاء إلى حد بعيد، وهذا أقل ما يقال عنهم. فقد انتقلت الكاتبة مانجوشير تابا من دولة نيبال إلى كندا مؤخراً. وتتذكر جلوسها في قاعة للسينما عندما بدأت الشاشة تخفت رويداً رويداً نظراً لاحتراق مصباح عرض الفيلم ببطء.
كانت الشاشة سوداء تقريباً إلا أن أحداً لم ينبس ببنت شفة. ولتعبر عن سخطها من ذلك الموقف، حثّت شريكها الكندي على تنبيه إدارة قاعة السينما بما حدث. ومع أنه حقق طلبها، إلا أنه قام بذلك على مضض. تقول تابا: "يمكن لمثل هذه الكياسة أن تُسكِت الناس هنا."
وعموما، رغم ما تقدّم، فإنها ستتعامل بكياسة يوماً ما، وأنا كذلك. فالحياة صعبة بما فيه الكفاية بوجود العديد من الصعاب والأشواك من حولنا. فلِمَ لا نكسوها بغطاء ناعم من الكياسة والتواضع؟ إن الكياسة، في أحسن أحوالها، أسلوب لتقدير الآخرين، وخاصة الغرباء. واللطافة في التعامل ليست إلا وسيلة لجعل العلاقات الاجتماعية تسير بسلاسة، ولتقليل خطر اشتعالها.
ومن وجهة نظرى، أعتقد أن العالم سيكون بحالٍ أفضل إذا ما كنا جميعاً كنديين أكثر من ذلك.
ولحسن الحظ، تعد الكياسة الكندية أمرا مُعديا. ففي هجرتي السنوية إلى الشمال نحو كندا، أجد نفسي وقد أبطأتُ من سرعتي في قيادة السيارة، وأقول كلمات مثل "شكراً" و "رجاءً" أكثر مما أقولها عادة. لعلّي أبالغ وأتجاوز حدود الكياسة إلى التملق، وإذا ما فعلت ذلك، فيمكنني أن أقول، بتعبير كندي أصيل، معذرةً.