السادس من آب هو يوم مصر بامتياز."مصر الجديدة" التي وعد بها الرئيس عبدالفتاح السيسي تكشف أولى معالمها اليوم.بعيدا من التفجيرات والتظاهرات والمكائن والمكائد، تعرض بلاد النيل وجها آخر لها آملة في حقبة جديدة للبلاد، على رغم التشكيك الذي يضمر الكثير لمصر ودورها في خضم اعادة ترتيب الادوار والاحجام في المنطقة.
افتتاح قناة السويس التي ربطت البحر الاحمر بالمتوسط المرة الاولى عام 1869 ، اعتبر قفزة كبيرة لمصر الى العصر الحديث.وتأميمها على يد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر عام 1956، شكل انقطاعاً حاسما لمصر مع ماضيها الاستعماري.وعلى غرار المرتين اللتين صنعت فيها القناة الحدث، يأمل الرئيس المصري بموعد جديد للتاريخ عندما يزيح الستار عن قناة السويس الجديدة. ولهذه الغاية سيدخل السيسي اليوم القناة الجديدة على متن "المحروسة" ، اليخت نفسه الذي دخل به المجرى المائي قبل أكثر من قرن الخديوي إسماعيل.
الاحتفال المهيب عام 1869 حضره امبراطور فرنسا آنذاك نابوليون الثالث وزوجته اوجيني، وعرضت فيه أوبرا عايدة للايطالي فيردي، للمرة الاولى عن اسطورة مصرية قديمة. الاحتفال اليوم يحضره زعماء من حول العالم، بمن فيهم الرئيس الفرنسي فرنسواهولاند الذي يحل ضيف شرف والرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
بعد أربع سنوات من الاضطرابات واطاحة رئيسين،تفاخر الحكومة المصرية ومعها الشريحة الاوسع من المصريين بأن "مصر عادت".ولعل المصدر الرئيسي لكثير من فخر هؤلاء، هو الفاعلية التي أنجز بها حفر القناة الجديدة التي يبلغ طولها نحو 35 كيلومتراً من مدينة الإسماعيلية، وتعميق القناة القديمة البالغ طولها 164 كيلومتراً على امتداد 37 كيلومتراً منها لكي تستوعب سفناً أكثر.ويزيد فخرهم انجاز المشروع في مدة قياسية (3 أشهر) أقل بكثير من التقديرات الأولية (3 سنوات). وبينما ذهب معظم مجد إنجاز القناة قبل أكثر من قرن لا لمصر، وأبنائها الكادحين، وإنما للمهندس فيرديناندز دي ليسيبس الذي أقنع الجميع بالمشروع، وأشرف عليه، فان المشروع الحالي مصري صرف مولته الحكومة المصرية (8,5 مليارات دولار) من دون اية مساعدات خارجية.
منذ بدء العمل بتوسيع القناة، لم ترد تقارير عن حوادث، خلافاً للحكايات المأسوية عن عمال ماتوا من الحر وظروف العمل أو هربوا من الخدمة أثناء حفر القناة الاولى. فقد أدى المشروع الاول اثناء تنفيذه وبعد إنجازه الى هجرة آلاف العمال إلى بلاد الشام. ولا يزال صدى الاثار الديموغرافية لذلك المشروع يتردد حتى الآن في فلسطين والأردن، وإلى قدر أقل في سوريا.
مذهل
وباقرار الأمين العام لغرفة التجارة الدولية للنقل البحري بيتر هينشليف أن "الأمر مذهل حقاً"، فقد أنجز المصريون هذا المشروع الضخم في وقت قصير للغاية. ومع أنه لفت الى صعوبة التنبؤ بما ستكون عليه حركة النقل بعد 10 سنوات، أبرز أهمية تقديم مصر خدمة أفضل وجاذبة للشحن، وخصوصاً أن القناة الجديدة تسمح بحركه ملاحة مزدوجة في اتجاهين في هذه المنطقه من مجري القناة الاساسية.
لا شك في أن عزم الحكومة المصرية على إنجاز المشروع بهذه السرعة ينطوي على رسالة الى الداخل والخارج معاً، مفادها أن ثمة نظاماً في مصر قادرا على تنفيذ وعوده واعادة انعاش اقتصاده إذا توافرت له الظروف الامنية الملائمة.
الى جانب الرسالة السياسية للمشروع، تعول مصر على القناة لانعاش اقتصادها الذي يعاني ركوداً كبيرا ويساهم في توفير فرص عمل.
شكوك
المدير العام لهيئة قناة السويس توقع ان يزيد دخل القناة من المشروع الجديد الى 12 مليار دولار سنوياً، بدلاً نحو خمسة مليارات دولار قبل حفر القناة الجديدة، الا أن هذه الارقام، كما الجدوى الاقتصادية للمشروع عموما، أثارت انتقادات في مصر وخارجه.
وكالة "بلومبرغ" االاقتصادية الاميركية رأت إن فوائد قناة السويس الجديدة ليست واضحة، على رغم من زيادة طاقتها الإستيعابية وتقليل الوقت الذي تمر فيه السفن عبر الممر المائي بطول 193 كيلومترا، مسترشدة بقول رئيس قسم الأبحاث في شركة Banchero Costa & Co لسمسرة السفن أن إعلان القناة الجديدة كان مفاجئا، حيث إنه لم يكن هناك طلب على ذلك، وأيضا قول رئيس قسم التحليل في شركة Lloyd's List Intelligence المتخصصة في جمع البيانات حول النقل البحري "حتى بدون أية تعديلات، فإن القناة ستظل دائما جذابة".
وذهبت الوكالة الى القول إن الحكومة المصرية لم تنشر دراسات جدوى توضح كيف ستحقق أرباح قدرها 64 مليار جنيه استثمرها المصريون في القناة، حيث إن حجم التجارة العالمية بحاجة للارتفاع بنسبة 9 في المئة سنويا لتحقق قناة السويس أهدافها من مرور السفن.
صحيفة "الانديبندنت" البريطانية التي تأخذ موقفا منحازا ضد نظام السيسي تساءلت في تقرير عنوانه "قناة السويس الجديدة هدية مصر الى العالم ": هل هناك حاجه فعلية لها ؟".
وقالت :"ما الجدوي من هذا المشروع الذي تسوقه الحكومة المصرية علي انه مشروع ضخم.
ففي قراءتها ان الحكومه المصريه قدمت تقديرات شديده التفاؤل لعائدات المشروع بحيث يزيد من عائدات قناه السويس السنويه اكثر من الضعف بحلول 2023 ليرفعها من نحو 3,2 مليارات جنيه استرليني حاليا الى نحو 8.5 مليارات جنيه استرليني. قد لاتكون عائدات المشروع بهذا الحجم في الواقع حيث تعتمد حركه الملاحة في قناه السويس على مرور حاويات النفط والغاز المسال من الشرق الاقصي والشرق الاوسط باتجاه اوروبا.
وتضيف الصحيفة ان المشروع يضاعف حجم حركه العبور في قناه السويس، لكن الحركه فيها اصلا ليست بهذا الحجم حالياً، حيث ان حجم التجاره العالمية والاوروبية خصوصاً في تراجع منذ عام 2005. والى الاسباب التجارية، تشير الصحيفة الى مخاوف امنيه من المرور في قناه السويس حيث ينشط تنظيم "الدوله الاسلاميه" في شبه جزيره سيناء كما هاجم قطعة بحرية مصرية في البحر المتوسط.
فرعونية لم لا؟
وحتى في مصر، برز بعض التساؤلات عما اذا كان المشروع يضيف إلى الاقتصاد المصري جديداً؟ وما اذا كانت الدعاية التي رافقت الإنجاز الحسّي على الأرض مستحقة وتتناسب مع أهمية المشروع؟ .
الكاتب أنيس أمين رد على الانتقادات بأن السيسي ينفذ مشروعا فرعونيا، قائلا :"لم لا ؟ إن مصر ـ وعدد سكانها 90 مليون نسمة ـ فى حاجة إلى مشروعات عملاقة فرعونية"، لافتاً الى أن مضاعفة حجم التسهيلات التى توفرها قناة السويس من شأنه أن يسبب انعاش الاقتصاد المصري وتوفير مليون فرصة عمل إضافية.
الى الامام
الباحثة في الشؤون الافريقية نرمين توفيق ردت على التشكيك في الجدوى الاقتصادية للمشروع، قائلة ل"النهار" إن اي مشروع يساهم في تطوير أهم معبر مائي يربط البحر الأحمر بالبحر المتوسط وما وراءهما هو مشروع هام وله جدوى اقتصادية، اضافة الى أن هناك مؤشرات تؤكد بالأرقام أن القناة الجديدة ستقلص مدة انتظار السفن في السويس وتزيد عدد السفن العابرة، الامر الذي سيمثل دخلاً إضافيا لموازنة الدولة من العملة الصعبة.
بالنسبة اليها، يعتبر المشروع انجازا حتى باقرار بعض الاعلام الغربي. وتدرج حملات التشكيك في اطار حملة منظمة تشن على مصر منذ "ثورة 30 يونيو" 2013 سواء في الصحف الغربية او عدد من وسائل الإعلام العربية التابعة لجماعة "لإخوان المسلمين" غير الراضية عن التغيير الذي حدث بمصر وتحول أي انجاز ايجابي إلى سلبي "ولو أن هذا المشروع بنفس مواصفاته أو أقل منه بكثير لو كان تم في عهد (الرئيس المعزول) محمد مرسي لهللت له وسائل الإعلام التابعة للاخوان، ومنها الجزيرة ولوصفته بالانجاز ".
وفي اي حال، تلفت توفيق الى أن الحسم في هذا الأمر سيظهر في المردود الاقتصادي للمشروع في السنوات المقبلة ، مؤكدة أن ان مصر ستسير الى الأمام ولن يوقفها أحد".
بين الناشطين المصريين على مواقع التواصل الاجتماعي شبه اجماع على أن هذا المشروع ينطوي على فوائد جمّة للاقتصاد المصري، و "من يحاول جهاراً نهار انكارها ًفهو كما يقول المثل المصري كمن يسعى إلى أن يغطي الشمس بغربال".
استراتيجياً
وبمفهوم استراتيجي، تقول وكالة "رويترز" ان المشروع يعزز دور قناة السويس كشريان دولي للتجارة الدولية بأبعادها السلعية والخدمية. وهو يأتي ضمن أكثر من منظومة دولية جديدة.فالعراك في القرن الإفريقي، وبخاصة في جنوب اليمن والصومال سوف ينتهي، ولن يطول. وإذا ما تحقق الهدوء وانسياب الحركة البحرية عبر مضيق باب المندب من شمال الكرة الأرضية وجنوبها، فإن قناة السويس سوف تتعزز مكانة وأهمية. فإنجازها التاريخي قد ربط بحري المتوسط والأحمر فصارت الطريق ممهدة من المحيط الهندي وبحر العرب عبر باب المندب إلى البحر الأحمر، وعبر قناة السويس الى البحر المتوسط وأوروبا، ومن خلال مضيق جبل طارق الى المحيط الأطلسي والقارة الأميركية.
وثمة جانب آخر تلفت اليه الوكالة وهو المشروع الصيني لإعادة إحياء طرق الحرير البرية والبحرية والذي يتوقع أن تكون قناة السويس مهمة لهذه الغاية. وإذا زادت تجارة أوروبا وأميركا مع الدول الإفريقية الواعدة فإن تجارة الجزء الشمالي من العالم مع القارة الإفريقية سيعزز من مكانة قناة السويس.
وفي ظل السيناريوات الجديدة التي ترسم للمنطقة، سيكون المشروع مناسبة لتعزيز موقف النظام المصري، فاذا نجحت مصر صناعياً وإنشائياً وأمنياً ، تتحول منافسا عربيا قوياً للأقطاب الثلاثة من غير العرب في المنطقة وهم إيران وتركيا وإسرائيل.
06.08.15 1:20
