عُصفورٌ صغير، في السَّماءِ يطير، يُحلِّقُ بين الأشجار،
يَجمعُ القَشَّ لِبناءِ عُشٍّ يأويه، ويَبحثُ عن طعامٍ يسُدُّ جوعه،
فيَجدُه وبفضل اللهِ يَكفيه.
لا يَدَعُ التَّحليقَ لبَردِ الشِّتاءِ، ولا لحرارةِ الصَّيف، بل يَغدُو ويَرُوحُ وهو يُزقزِق.
وهذه نَملةٌ تُحاولُ الصُّعودَ، لكنَّها تسقُطُ، فما تَمَلُّ، وما تستسلِمُ،
وما تتخلَّى عن الهَدفِ، بل تُحاولُ وتُحاولُ حتى تبلُغَ ما تُريد.
وهذه نَحلةٌ تتنقَّلُ بين الأزهار، تَمتصُّ رَحيقَها؛ لِتُخرِجَ لنا عَسلاً شَهِيًّا.
أمَّا هذه، فقد وقفَت، ورَفَعَت بَصرَها للسَّماءِ، وأخذَت تتأمَّلُها،
وتقولُ في نَفسِها: كم أنتِ بعيدةٌ! وكم هو صَعبٌ الوصولُ إليكِ!
شَمسُكِ تُضيءُ نَهارَنا، وقَمرُكِ يُنيرُ لَيلَنا، فهل يُمكِنُ أن أكونَ كأحدِهما؛
أُضيءُ حياتي بالطَّاعةِ، وأُنيرُها بالذِّكرِ وصالِحِ العَمل؟!
نُجُومُكِ تلمَعُ وتتلألأ، فهل يُمكِنُ أن أكونَ نَجمةً في بيتي وبين أهلي وعَشيرتي؟!
بالتَّأكيدِ لا، فأنا ضَعيفةٌ، وإمكانيَّاتي مَحدودةٌ، ولا أُتقِنُ شيئًا.
هذا حالُ بَعضِ الأشخاص؛ يَنظُرُونَ لأنفُسِهم نظرةً دُونِيَّةً،
يحقِرونَ مَواهِبَهم، ويُقلِّلونَ مِن قُدراتِهم، ويَعيبونَ على أنفُسِهم.
قد تأتيهم الفُرَصُ، فلا يقتنصونها، وقد يُتقِنونَ أعمالاً كبيرةً،
فلا يُقبِلُونَ عليها، وقد يَرغبونَ في الخَيرِ، فلا يَفعلونَه.
ضَمائِرُهم تُؤنِّبُهم إذا تقدَّمُوا خُطوةً للأمام، وأنفُسُهم تلومُهم إذا فكَّروا
في الانطلاقِ نحو العَلياءِ، وأهواءُهم تَعوقُ تحليقَهم نحو السَّماءِ.
ضَعيفُوا النُّفُوس، مُقَيَّدُوا الحَركة، بَطيئوا التَّقدُّم.
هؤلاءِ سيَظلُّونَ في أماكِنِهم، بلا حركةٍ ولا تقدُّم، تَمُرُّ بهم الأيَّامُ وهم نِيامٌ،
ويتقدَّمُ بِهم الزَّمَنُ وتبقى حياتُهم بلا ثَمَن.
ليس شرطًا أن يكونَ لَكم أجنحة لِتُحلِّقوا ،
وليس من الضَّروريِّ أن تكونوا نجوما في السَّماءِ لِتتألَّقوا ،
وليس شرطًا أن تمتلكوا إمكانيَّاتٍ كبيرةً لتكونوا في المُقدِّمةِ وتسبقوا.
لِكُلِّ إنسانٍ إمكانيَّاتُه وقُدراتُه ومَواهِبُه، وهناك فُروقٌ في ذلك بين الأفراد.
وليس ضروريًّا أن يكونَ الإنسانُ شديدَ الذَّكاءِ لِيَستطيعَ التَّقدُّمَ
والسَّيرَ في طريق العَطاءِ.
فقط ضعواأقدامكم على الطريق، فَتِّشوا في مَواهِبِكِم، ابحثوا عَمَّا تُتقنوه ،
ثُمَّ طَوِّروه ونَمّوه، حَدِّدوا هَدَفًا تُريدونَ الوصولَ إليه، وليَكُن هدفكم الأكبر
والأَهَمّ ( رِضا اللهِ سُبحانه وتعالى، والفوز بجنَّتِهِ ) .
لماذا يَسيرُ الاثنان في نَفس الطريق، فيَفشل أحدُهما ويَيأس من المُواصلَة،
ويتخلَّى عن الهَدف، في حِين يُكمِلُ الآخَرُ، ويَصِلُ ولا يَفقِدُ الأملَ؟!
السَّبَبُ أنَّ الأوَّلَ حينَ أخفَقَ، ظَنَّ أنَّ الحَياةَ توقَّفَت به عند ذاكَ الحَدِّ،
ولم يَستطِع الصَّبرَ والتَّحمُّل، فتخلَّى عن هَدفه بسُرعةٍ، وعاد مِن حيثُ بدأ.
أمَّا الآخَرُ، فحِينَ أخفَقَ، عَلِمَ أنَّ هذا بِدايةُ النَّجاح، فأكملَ المَسيرَ
على أمل الوصول، تَعِبَ قليلاً، وصَبَر وتحمَّلَ، فوَصَل.
إخفاقُنا مرَّةً أو مرَّاتٍ لا يَعني أنَّنا لم ننجَح، وفشلُنا في تحقيق أهدافِنا
من أوَّل مرَّةٍ لا يَعني أنَّنا لا نملُكُ القُدرةَ على تحقيقِها، فرُبَّما كان هذا
الفشلُ وذاكَ الإخفاقُ قُوَّةً تأخُذُ بأيدينا نحو النَّجاح والتَّفوُّق، وتضعُ
أقدامنا على طريق التَّقدُّم.
فحلِّق/ي- أخي ، أُختي- بعَطائِكم ولو كان قليلاً؛ بكلمةٍ، بنُصحٍ، بتوجيهٍ، بمقالٍ،
بتقديمِ مُساعَدَة، بنَقلِ عِلمٍ نافِعٍ، بنَشر بَرنامَجٍ مُفيدٍ، بكُلِّ ما تستطيعون.
لا تقولوا : لا نستطيع.
لا تمنحوا الشَّيطانَ فُرصةَ تثبيطِكم.
لا تجعلوا أنفسكم الأمَّارة بالسُّوءِ تَحيدُ بِكم عن طريق الخير.
تنافسوا، وتجنَّبوا الغَيْرةَ والمُقارنةَ والرَّغبةَ في سُرعةِ الوصولِ.
كُونوا أنتم.. بشخصيتكم، بجَمالِكم، بعَطائِكم الذي يُميِّزُكم.
وحلِّقوا بعيــدًا بعيــدًا.