أقوال محمود درويش عن القهوة - عبارات عن القهوة محمود درويش
أُريد رائحة القهوة. لا أريد غير رائحة القهوة. ولا أريد من الأيام كلها غير رائحة القهوة، رائحة القهوة لأتماسك، لأقف على قدميّ، لأتحول من زاحف إلى كائن، لأوقف حصتي من هذا الفجر على قدميه. لنمضي معًا، أنا وهذا النهار ، إلى الشارع بحثًا عن مكانٍ آخر.
والقهوة، لمن أدمنها مثلي هي مفتاحُ النهار. والقهوة، لمن يعرفها مثلي؛ هي أن تصنعها بيديّك، لا أن تأتيك على طبق، لأن حامل الطبق هو حامل الكلام، والقهوة الأولى يفسدها الكلام الأول لأنها عذراء الصباح الصامت. الفجرُ، أعني فجري، نقيضُ الكلام. ورائحة القهوة تتشرّب الأصوات، ولو كانت تحيةً مثل “صباح الخير” وتفسد.
لذا فإن القهوة هي هذا الصمتُ الصباحي، الباكِر، المتأني، والوحيد الذي تقف فيه وحدك، مع ماء تختاره بكسل وعزلة في سلام مبتكر مع النفس والأشياء، وتسكبه على مهل وعلى مهل في إناء نحاسيّ صغير داكِن وسريّ اللمعان، أصفر مائل إلى البنّي، ثم تضعه على نار خفيفة.. آه لو كانت نار الحطب.
لأن القهوة؛ فنجان القهوة الأول، هي مرآة اليد. واليدُ التي تصنع القهوة تُشيع نوعية النفس التي تحركها. وهكذا، فالقهوة هي القراءةُ العلنية لكتاب النفس المفتوح .. والساحرة الكاشفة لما يحمله النهار من أسرار.
خُذْ القهوة إلى الممرّ الضيق. صبّها بحنان وافتنان في فنجان أبيض، فالفناجين داكنة اللونج تفسد حرية القهوة .. راقِب خطوط البخار وخيمة الرائحة المتصاعدة. أشعِل سيجارتك الآن، السيجارة الأولى المصنوعة من أجل هذا الفنجان، السيجارة ذات المذاق الكوني التي لا يعادلها مذاق آخر غير مذاق السيجارة التي تتبع عملية الحب، بينما المرأة تدخِّن آخر العرق وخفوت الصوت.. ها أنذا أُولد. امتلأت عروقي بمخدرها المنبّه، بعدما التقت بينبوع حياتها، الكافيين والنيكوتين وطقس لقائهما المخلوق من يدي. أتسائل: كيف تكتب يدٌ لا تبدع القهوة؟ كم قال لي أطباء القلب، وهم يدخنون: لا تدخِّن ولا تشرب القهوة. وكم مازحتهم: الحمار لا يدخن ولا يشرب القهوة، ولا يكتب.
لا قهوة تشبه قهوة أخرى. لكل بيت قهوته، ولكل يد قهوتها، لأنه لا نفس تشبه نفسًا أخرى. وأنا أعرف القهوة من بعيد: تسير في خط مستقيم، في البداية ، ثم تتعرح وتتلوى وتتأوّد وتتأوّه وتلتفّ على سفوح ومنحدرات، تتشبّث بسنديانة أو بلوطة، وتتفلّت لتهبط الوادي وتلتفت إلى وراء، وتتفتّت حنينًا إلى صعود الجبل وتصعد حين تتشتت في خيوط التاي الراحل إلى بيتها الأول..
القهوة لا تُشرَب على عجل. القهوة أُختُ الوقت. تُحتَسى على مهل .. على مهل .. القهوة صوت المذاق، صوت الرائحة. القهوة تأمّل وتغلغل في النفس وفي الذكريات. والقهوة عادة تلازمها بعد السيجارة عادة أخرى هي .. الجريدة..
رائحة القهوة عودة وإعادة إلى الشيء الأول، لأنها تنحدر من سلالة المكان الأول، هي رحلة بدأت من آلاف السنين. ومازالت تعود. القهوة مكان، القهوة مسام تُسرِّب الداخل إلى الخارج، وانفصالٌ يُوَحِّد ما لا يتوحّدُ إلّا فيها هي رائحة القهوة. هي ضدُّ الفطام. ثدي يُرضع الرجال بعيدًا. صياحٌ مولود من مذاق مُرّ، حليب الرجولة، والقهوة جغرافيا.