انطباع الناس غالباً تجاه الزمن ينقسم إلى عدة أنواع..
نوع يحنّ دائماً لماضيه, حتى ولو كان حاضره أجمل, لكنه بشكل لاشعوري يتصور أن الماضي كان أجمل, وأبسط, وأكثر راحة واستقرار, وأن من سوء حظه أنه انتقل من نعيم الماضي إلى حجيم الحاضر, ونرى ذلك غالباً عند كبار السنّ, عندما يسردون لنا قصصهم ومواقفهم وبطولاتهم في الماضي, فتسمع بين الأحداث آهات حنين واشتياق..
وهنا أتذكر أبيات أبو العتاهية:
بكيْتُ على الشّبابِ بدمعِ عيني
فلم يُغنِ البُكاءُ ولا النّحيبُ
فَيا أسَفاً أسِفْتُ على شَبابٍ،
نَعاهُ الشّيبُ والرّأسُ الخَضِيبُ
عريتُ منَ الشّبابِ وكنتُ غضاً
كمَا يَعرَى منَ الوَرَقِ القَضيبُ
فيَا لَيتَ الشّبابَ يَعُودُ يَوْما
فأُخبرَهُ بمَا فَعَلَ المَشيبُ
أما النوع الثاني, فهو متلهف للمستقبل, ويعتقد بأن القادم من الأيام أجمل من الحاضر والماضي معاً..
فتراه ينتظر السعادة حتى تأتيه من تلقاء ذاتها عندما تصفو له الأيام, فقد تأتيه وقد لا تأتي!
وهذا أيضاً يعتقد بأن الحاضر والماضي كانا مليئين بالأقدار السوداء, وأن الأقدار السعيدة الجميلة قادمة مع المستقبل.
كأبيات الشاعر المتلهّف!
يا لهفة العاشق المشتاق يوم غدٍ
وفرحة المغـرم المظنى متى حانا
لا تعجبوا من فرحتي فغــداً ألاقي
حـبـيـبٌ بـديــع الحـسـن فـتـّـانــا
وينفث الزهر أطياب العـبيـر لـنا
ويـبـدع الطيـر أنغـامـاً وألحـانـا
وتلمـع الشهـب بالأنـوار ساطعـة
ويخطـر البدر بالأضـواء ولهانا
والورد من عطره الفواح غامرنا
والطير في لحنة الصداح يلقانا
ونوعٌ آخر سوداوي مستاء من ماضيه, وضجرٌ في حاضره, ويائس من مستقبله.
الذي يبدو أن المتنبي انتمى إليه حين قال هذه الأبيات:
عيدٌ بأيّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ
بمَا مَضَى أمْ بأمْرٍ فيكَ تجْديدُ
أمّا الأحِبّةُ فالبَيْداءُ دونَهُمُ
فَلَيتَ دونَكَ بِيداً دونَهَا بِيدُ
لم يَترُكِ الدّهْرُ مِنْ قَلبي وَلا كبدي
شَيْئاً تُتَيّمُهُ عَينٌ وَلا جِيدُ
يا سَاقِيَيَّ أخَمْرٌ في كُؤوسكُما
أمْ في كُؤوسِكُمَا هَمٌّ وَتَسهيدُ؟
أصَخْرَةٌ أنَا، ما لي لا تُحَرّكُني
هَذِي المُدامُ وَلا هَذي الأغَارِيدُ
ماذا لَقيتُ منَ الدّنْيَا وَأعْجَبُهُ
أني بمَا أنَا شاكٍ مِنْهُ مَحْسُودُ
أما أنا, فلا أميل إلى هذا ولا إلى ذاك, وأقول بتواضع: الآن هو اللحظة التي ينبغي أن نعيشها بكل مافيها من تفاصيل, وجمال وفرحة وربما حزن, الموتى وحدهم لا يحزنون, بغض النظر عن الماضي, والمستقبل, فسيأتي يوم, قد نكون فيه من النوع الأول.. وعندها لن ينفع ندم, ولا أبيات شعر.
والأعمار تمضي!