حياة البرزخ حياة متوسطة بين الدنيا والآخرة، وتبدأ من حين قبض روح الإنسان، وتستمر حتى البعث وقيام الساعة، وحقيقة ما يحصل فيها وتفصيل ذلك لا يعلمه إلا الله، وليس هناك من سبيل لمعرفة شيء من ذلك إلا من طريق الوحي المعصوم.
هيئة ملك الموت عند قبض الروح
لا أحد يعلم في هذا الأمر شيئا ثابتا عن المعصوم صلى الله عليه وسلم ، وقد عقد القرطبي في كتاب (التذكرة) بابا لما جاء في صفة ملك الموت عند قبض روح المؤمن والكافر، قال فيه: قال علماؤنا رحمهم الله: وأما مشاهدة ملك الموت عليه السلام، وما يدخل على القلب منه من الورع والفزع، فهو أمر لا يعبر عنه لعظم هوله وفظاعة رؤيته، ولا يعلم حقيقة ذلك إلا الذي يبتدئ له ويطلع عليه، وإنما هي أمثال تضرب، وحكايات تروى. [1]
الإيمان بملك الموت
“الإيمان بملك الموت أنه يقبض الأرواح، ثم تُرَدُّ في الأجساد في القبور، وهو يتَّصف بصفات من القدرة والسلطان وعِظَم الخَلق، وغيرهما من الصفات التي جعلتْه قادرًا على قبض أرواح كثيرة في أماكن مختلفة بعيدة الأطراف في لحظة واحدة.
قال الله – تعالى -: ﴿ قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ﴾ [السجدة: 11].
قال ابن عباس – رضي الله عنهما – كما في كتاب “العظمة” لأبي الشيخ (3/924): “خطوة ملك الموت ما بين المشرق والمغرب”.
وصحَّ عن مجاهد أنه قال عن ملك الموت: “حُوِيت له الأرض، فجُعلت له مثل الطست يتناول منها حيث يشاء”؛ (تفسير الطبري:21/98). [3]
شكل الأرواح في دار البرزخ
الجواب في قوله تعالى : وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء: 85]
وقد قال ابن القيم في كتاب (الروح) : ومما ينبغي أن يعلم أن ما ذكرنا من شأن الروح يختلف بحسب حال الأرواح من القوة والضعف، والكبر والصغر، فللروح العظيمة الكبيرة من ذلك ما ليس لمن هو دونها، وأنت ترى أحكام الأرواح في الدنيا كيف تتفاوت أعظم تفاوت بحسب تفارق الأرواح في كيفياتها وقواها، وإبطائها وإسراعها، والمعاونة لها، فللروح المطلقة من أسر البدن وعلائقه، وعوائقه من التصرف والقوة والنفاذ والهمة، وسرعة الصعود إلى الله، والتعلق بالله ما ليس للروح المهينة المحبوسة في علائق البدن وعوائقه، فإذا كان هذا وهي محبوسة في بدنها فكيف إذا تجردت وفارقته، واجتمعت فيها قواها وكانت في أصل شأنها روحا علية، زكية، كبيرة ذات همة عالية، فهذه لها بعد مفارقة البدن شأن آخر وفعل آخر. [1]
حال الرجل الصالح لحظة مجيء ملك الموت
الأحاديث التي تدل على كرامة الرجل الصالح عند قبض رُوحه :
أولاً: تأتيه ملائكة الموت في صورة حسنة :
فقد أخرج الإمام أحمد عن البراء بن عازب – رضي الله عنه – أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبالٍ من الآخرة، نزل إليه ملائكة من السماء، بِيضُ الوجوه، كأن وجوههم الشمس، معهم كَفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنَّة، حتى يجلسوا منه مدَّ البصر، ثم يجيء مَلَك الموت – عليه السلام – حتى يجلس عند رأسه، فيقول: يا أيتها النفس الطيبة – وفي رواية: يا أيتها النفس المطمئنة – اخرجي إلى مغفرة من الله ورِضوان، قال: فتخرج تَسيل كما تسيل القطرة من فِي السقاء فيأخذها).
وأخرج ابن أبي الدنيا عن كعب: “أن إبراهيم – عليه السلام – قال لمَلَك الموت: أرني الصورة التي تقبضُ فيها المؤمن، فأراه، فرأى من النور والبهاء شيئًا لا يعلمُهُ إلا الله تعالى، فقال: ولو لم يرَ المؤمنُ عند موته من قُرة العين والكرامة إلا صورتك هذه، لكان يكفيه”؛ بُشرى الكئيب بلقاء الحبيب؛ للسيوطي 41.
ثانيًا: أنه يعلم أنه من أهل الجنَّة قبل أن يموت:
وعن الضحاك في قوله تعالى: ﴿ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ﴾ [يونس: 64]؛ قال: “يعلم أين هو قبل الموت”؛ (تفسير الطبري؛ ابن أبي شيبة).
قال محمد بن كعب: “لا يموت أحد من الناس حتى يعلم أَمِنْ أهل الجنة هو أم أهل النار؟”؛ (تفسير ابن كثير: 4/ 301).
ثالثًا: يُسلِّم عليه المولى – عز وجل – وملك الموت، وكل مَلَك بين السماء والأرض :
أخرج ابن منده عن ابن مسعود – رضي الله عنه – قال: “إذا أراد الله قبْض رُوح المؤمن، أوحى إلى مَلَك الموت، أقرِئْهُ مني السلام، فإذا جاء ملك الموت، يقبضُ رُوحه، قال: “ربك يُقرئك السلام”.
وأخرج ابن أبي شيبة، والحاكم وصحَّحه، والبيهقي في “شعب الإيمان” عن البراء بن عازب – رضي الله عنه – في قوله: ﴿ تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ ﴾ [الأحزاب: 44]، قال: “يوم يَلقَون مَلَك الموت”، ليس من مؤمنٍ تُقبضُ رُوحه إلا سَلَّم عليه”.
وأخرج ابن المبارك وابن منده عن محمد بن كعب القرظي قال: “إذا استنقعت[2] نفسُ العبد المؤمن، جاءه مَلَك الموت، فقال: السلام عليك يا ولي الله، الله يقرئك السلام، ثم تلا هذه الآية: ﴿ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ﴾ [النحل: 32]؛ (بشرى الكئيب للسيوطي: ص 48).
وأخرج ابن منده عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن المؤمن إذا كان في إقبال من الآخرة، وإدبار من الدنيا، نزلت ملائكة من ملائكة الله – كأن وجوههم الشمس – بكفنه وحنوطه، فيقعُدون منه، حيث ينظر إليهم، فإذا خرجت روحُه، صلَّى عليه كل مَلَك بين السماء والأرض).
وسلام الملائكة على العبد المؤمن يكون في ثلاثة مواضع :
أحدها: عند قبض روحه في الدنيا، يُسلِّم عليه ملك الموت؛ (قاله الضحاك).
الثاني: عند مساءلته في القبر، يُسلِّم عليه منكر ونكير.
الثالث: عند بعثه في القيامة تُسلم عليه الملائكة قبل وصوله إليها. [2]
الاسم الحقيقي لملك الموت
لم يرد نص في كتاب ولا سنة بتسمية ملك الموت بعزرائيل كما يسميه الكثيرون، وإنما ورد عن وهب بن مُنبِّه تسميته بذلك، ولهذا قال العلماء : إنه من الإسرائيليات.
قال الألباني – رحمه الله تعالى – في تخريج الطحاوية: “وأما تسميته بـ (عزرائيل) كما هو الشائع بين الناس، فلا أصل له، وإنما هو من الإسرائيليات”.
ومما ينبغي أن يعلم : أن أسماء الملائكة من الغيب الذي استأثر الله بعلمه، فلا نعلم منها إلا ما أخبرنا الله عنها، واسم عزرائيل لم يرد في الكتاب ولا السنة، كما تقدم، فلا يُسمَّى إلا بما سمَّاه الله به، وهو ملك الموت، والله تعالى أعلم. [4]