31.03.20 18:47 | فيروس كورونا أمام ممانعة الدين الشعبي في العراقرقم المشاركة : ( 1 ) |
نائب المدير
إحصائيةالعضو | | العمر : 36 | عدد المساهمات : 5565 | نقاط : 112467 | 20 |
|
| موضوع: فيروس كورونا أمام ممانعة الدين الشعبي في العراق فيروس كورونا أمام ممانعة الدين الشعبي في العراق
أثارت زيارة ضريح الإمام الكاظم في بغداد الأسبوع الماضي الكثيرَ من السخط العراقي بسبب قدوم عشرات الآلاف من الزوار مشياً على الأقدام من مختلف مدن البلد ومحافظاته ليجتمعوا في الضريح في خرق واضح لقرار الحكومة العراقية بحظر التجول منعاً لانتشار فيروس كورونا.
تصاعدت حدة هذا السخط بسبب الاستهزاء العلني لبعض الزوار ورجال الدين بالفيروس إلى حد تحديهم له أن يمسهم بسوء ما داموا يؤدون طقساً إيمانياً يستذكر أحد أئمة أهل البيت النبوي على أساس أن الإمام صاحب الضريح سيتكفل بحمايتهم من الفيروس.
بعيداً عن العواقب المفترضة لهذا التجمع البشري الكبير وما يمكن أن يؤدي إليه من تفشٍ واسع للفيروس في ظل بنية تحتية مهترئة للقطاع الصحي في العراق ليس بمقدورها مواجهته، يثير كاملُ هذا المشهد أسئلة مهمة بخصوص الدين الشعبي وتأثيره في الصالح العام ودور الدولة في تعريف وصيانة هذا الأخير إزاء الصعود الشعبوي لهذا الدين. بالطبع الدين الشعبي موجود بنسخ سنية وشيعية في البلد، لكن التمظهر الشيعي له هو الأكثر تأثيراً في البلد وفي تعريف الصالح العام، إذ بقي التمظهر السني للدين الشعبي فردياً من دون إطار سياسي أو حزبي له كما هو الحال في نظيره الشيعي.
بخلاف الدين النصي أو المؤسسي الذي يستند على فهم منهجي للنصوص التأسيسية، قرآنية أو نبوية أو إمامية، في السياق الإسلامي الشيعي، يقوم الدين الشعبي على الطقوس والممارسات الشعبية الخالية من التنظير المنهجي والتي تعكس في العادة الحاجات النفسية والاجتماعية للشرائح المحرومة اقتصادياً وثقافياً في المجتمع. يتبدى هذا الحرمان عبر أحاسيس التهميش التي تشعرها هذه الشرائح ولا يمكن أن يستوعبها أو يجيب عليها الدين النصي حتى بالرغم من انتماء أنصار الدين الشعبي عقائدياً وتأريخياً للدين النصي لكن من دون التقيد بضوابطه النصية والمؤسساتية عند اصطدامها بمعتقداتهم الشعبية. تمنح طقوس وعادات الدين الشعبي ممارسيه عزاءً نفسياً مهماً لمواجهة الحرمان وتعويضاً حسياً يشعرهم بالتمكين والقوة والاعتزاز بالذات إزاء عالم يبدو قاسياً أو متكبراً أو غير مبال بهم.
تمثل المرجعية الدينية في النجف باشتغالاتها الدينية المعتادة وأدواتها المؤسساتية في صناعة المواقف والترويج لها الدينَ النصي، فيما يتمثل الدين الشعبي عبر طيف سكاني واسع نسبياً، من دون إطار مؤسساتي، تَشَكلَ في ظل ظروف الحرمان الاقتصادي والثقافي الطويل الأمد الذي ضرب شرائح اجتماعية كثيرة منذ بداية عقد التسعينات مع فرض العقوبات الاقتصادية القاسية على العراق بعد غزو نظام صدام حسين الكويت.
لا يعني هذا أن الدين الشعبي لم يكن موجوداً في البلد قبل عقد التسعينات، لكن كان هذا الوجود متناثراً ديموغرافياً ومحدود عددياً ومن دون هوية ثقافية أو سياسية واضحة له. حينها كان هذا الدين الشعبي يتمثل في الغالب عبر معتقدات وممارسات شعبية إعجازية الطابع تأخذ شكل التكرار المألوف لأنُاس فقراء وغير متعلمين لا تمثل تحدياً للصالح العام وتتمحور في معظمها حول استثنائية علاقتهم بالله والأئمة والصالحين على نحو يُمكن هؤلاء الناس، الأضعف مادياً في المجتمع، من تغيير أو تعطيل الوقائع المنطقية السلبية في الحياة من دون استخدام وساطات مادية، كالتشافي عند قبور الأئمة وتحقيق الغايات الصعبة والمستحيلة عبر تقديم النذور والأدعية الخاصة. وإذا كان في متون الدين النصي بعضُ ما يمنح الشرعية لمثل هذه المعتقدات والممارسات، فإن تمثلَ الدين الشعبي لها يأخذها بعيداً عن سياقاتها النصية عبر اعتمادها سبيلاً اساسياً، وحتى وحيداً، للإنجاز والتكليف الديني وفصلها عن اعتبارات المنطق وضوابط الواقع التي يؤكد عليها الدين النصي.
في التسعينات، مع تعمق الحرمانات العراقية في ظل العقوبات الاقتصادية القاسية وعجز الدولة عن تمويل فرص التقدم الاجتماعي والثقافي لمواطنيها، اتسع الدين الشعبي كثيراً في البلد. تواصل هذا الاتساع حتى بعد رفع العقوبات الاقتصادية إثر سقوط نظام صدام حسين بسبب فشل النظام الجديد في صناعة أفق عام واعد للمجتمع عبر توفير فرص اقتصادية وثقافية لعموم الجمهور، خصوصاً الطبقات الأضعف فيه. ساهم استمرارُ عجزِ الدولة طويلِ الأمد هذا، قبل وبعد 2003، عن تحقيق تنمية اقتصادية وثقافية مستدامة في تكريس الخَلاصَات الغيبية والحلول الخرافية والتخريجات السحرية لدى هذه الطبقات كسبيل للتعاطي مع مرارات الحياة وانسداد الأفق فيها.
لعل التطور الأهم بخصوص الدين الشعبي الشيعي بعد عام ٢٠٠٣ هو بروز هوية ثقافية وسياسية له تمثلها التيار الصدري الذي استوعب في صفوفه القسم الأكبر من ممارسي هذا الدين ليصبح التيارُ التعبيرَ الإيديولوجي لطموحات هؤلاء من خلال تبنيه لدعوات عدالة اجتماعية لم تنضج سياسياً أو مؤسساتياً لأسباب مختلفة ومعقدة. على هذا النحو، مَثّل التيار الصدري لحظة تصالح نادرة بين الدين النصي والدين الشعبي، فزعامة التيار وكبار قياداته تنتمي لتقليد الدين النصي، كما في عائلة الصدر ذات التاريخ المرجعي الطويل، فيما يأتي أغلب جمهور التيار من تقليد الدين الشعبي. لعل أحد أهم التحديات التي يواجهها السيد مقتدى الصدر منذ عام ٢٠٠٣ هي صعوبة التوفيق السلس بين نصية انتمائه الديني، بمحدداته العقائدية والتاريخية والمؤسساتية، وشعبية إيمان غالبية جمهوره باندفاعاته الحسية والعاطفية والشعبوية.
كانت لحظة كورونا مثالاً آخرَ على المواجهة العراقية بين الدين النصي والشعبي وخصوصية التحدي الصدري في كيفية التعاطي مع تناقضات هذه اللحظة. فقد اتخذت المرجعية في النجف موقفاً عقلانياً استند إلى المفهوم النصي المتعلق بتقديم رأي أهل الخبرة من المختصين بالطب على آراء غيرهم فطالبت الناس بالالتزام بالضوابط الصحية التي أعلنتها الحكومة العراقية المتعلقة بالالتزام بحظر التجول وتجنب التجمهر وضرورة المكوث في البيت. لم ينصت ممارسو الدين الشعبي، وغالبيتهم من اتباع التيار الصدري، لموقف المرجعية وأصروا على المضي في الزيارة السنوية المعتادة للإمام الكاظم، من دون اهتمام جدي بالمخاطر الصحية العامة التي يمكن أن تنشأ عن تجمعهم بأعداد كبيرة. كان إيمانهم التلقائي بالمعجزة، كشكل من أشكال الاستثناء والحماية الغيبية لهم من قواعد وعواقب المنطق الإنساني والعلم التجريبي، أقوى بالنسبة لهم مما بدا لغالبية الجمهور العراقي بديهةَ عقلية ودينية لا يختلف العقلاء بشأنها وتتعلق بضرورة صيانة الجسد الإنساني من ضرر محقق يمكن أن يكون قاتلاً.
كان موقف السيد الصدر متأرجحاً بين الاثنين في سعي توفيقي بين الدين النصي والشعبي لم يكن ناجحاً في آخر المطاف. في البداية كان تعاطفه واضحاً مع الدين الشعبي من خلال إصراره على إبقاء ضريح الإمام علي في النجف مفتوحاً في أثناء صعود تهديد كورونا والمطالبات العامة بغلق الضريح ولزومه الصمت بخصوص زيارة الكاظم ومن ثم تهنئته للزائرين على إتمام زيارتهم برغم تحديهم إجراءات حظر التجول الحكومية وتعليمات المرجعية في النجف. فيما بعد، اتخذ الصدر وأنصاره إجراءات لدعم تطبيق حظر التجول والمساهمة بشكل أوضح في مكافحة الفيروس، في خضم تصاعد الانتقادات الشعبية لموقف التيار بخصوص الإصرار على الزيارة.
إن دخول ممارسي الدين الشعبي بأعداد كبيرة في تيار سياسي فاعل في الحياة العامة أمر إيجابي لأنه يوفر إطاراً سياسياً ومؤسساتياً يساعد على استيعاب المطامح المشروعة لهذه الفئة الاجتماعية المهمشة من خلال عقلنة اندفاعاتها العاطفية وربطها بالصالح العام كأحد وسائل الدمج التدريجي لهذه الفئة ببقية المجتمع. ما حصل في لحظة كورونا كان العكس تماماً، إذ انتصرت الاندفاعات العاطفية للدين الشعبي على الصالح العام لتخلق مشهد انفصال آخر، كان يمكن تجنبه، بين أنصار الدين الشعبي وبقية المجتمع.
|
| |