لحظة إطلاق المركبة "تشاندريان 2" في يوليو/تموز الماضي والتي تمثل المحاولة الثانية للهند في مهماتها القمرية (رويترز)
على الرغم من فشل مركبة الفضاء الهندية تشاندريان من الهبوط على سطح القمر، فإنها المحاولة الثانية للهند هناك، وهذا في حد ذاته إنجاز عظيم لدولة من العالم الثالث ذات شعب فقير وربما معدم اقتصاديا، أن تقوم بمثل هذه الخطوة الرائدة، ولو كانت نجحت في ذلك لسجلت نفسها كرابع دولة بعد أميركا وروسيا والصين تحط على سطح جارنا الأقرب القمر، ذلك العالم المظلم القاحل، ولكانت قالت للعالم إننا دولة عظمى ولنا قدم في الفضاء كما لكم.
وبالطبع فإن نجاحها في ذلك هو تحد ونجاح في الصراع الوجودي بينها وبين جارتها المسلمة باكستان التي لم تفتأ تنازعها وتسابقها نوويا، بل تتغلب عليها عسكريا حتى اليوم.
ووصول الهند إلى القمر يحمل في طياته أمورا علمية وسياسية متعددة نستعرض فيما يأتي بعضها.
ما تشاندريان؟
اسم تشاندريان -المشتق من "تشاند" وهو القمر في اللغة الهندية- يعني المتجه إلى القمر، هي المركبة الثانية التي تطلقها الهند إلى القمر، فقد سبقتها تشاندريان (1) عام 2008، ودارت حول القمر بهدف دراسة وجود جزيئات الماء على سطحه، وحاولت الهبوط عليه لكنها فشلت.
الناس تابعوا البث المباشر لإطلاق المركبة تشاندريان 2 في يوليو/تموز الماضي (رويترز)
أما "تشاندريان 2" التي تعد أقل رحلات الفضاء تكلفة إلى القمر (150 مليون دولار فقط) مقارنة برحلات أميركا وروسيا والصين، فهي الرحلة ذات المراحل الثلاث التي كان هدفها الوصول إلى القمر والدوران حوله ثم الهبوط على سطحه والسير فوقه بعربة. غير أن التكنولوجيا الهندية لم تبلغ بعد ذلك التقدم والخبرة في فعل ذلك، مما أفقدها الاتصال بمسبار الهبوط فيكرام (نسبة إلى اسم مؤسس منظمة بحوث الفضاء الهندية) في آخر دقائق الرحلة، وبذلك فشل هذا الجزء من الرحلة، لتترك المركبة المدارية دائرة حول القمر لمدة سنة قادمة كما هو مخطط لها.
الرحلة الهدف
ولعل أهم الأهداف التي ترنو لها الهند من وراء محاولتها الثانية في الوصول إلى القمر هو تسجيل رقم قياسي عالمي كرابع دولة تغرز علمها في سطحه، وهو ليس إنجازا سهلا ولا بسيطا ولا ممكنا لغير تلك الدول التي تملك برنامجا طموحا تتوحد فيه كل جهود الدولة ومؤسساتها العلمية، بعيدا عن الاستعانة بالخبرات الأجنبية فضلا عن شرائها بالكامل كما تفعل بعض دول العالم الثالث. فسياسة الهند العلمية والتقنية -كما صرح المسؤولون وعلماء الفلك والفضاء فيها- تعتمد على الصناعة المحلية والأيدي الهندية دون شرائها من الخارج، فكثير من علمائها شاركوا البلدان المتقدمة في برامجها الفضائية وبذلك اكتسبوا خبرتهم ونقلوها إلى بلدهم. ولأن الهند أو شبه القارة الهندية تمثل ثاني أكبر زخم بشري على الكرة الأرضية بعد الصين، فإن مشروعا بهذه الأهمية لا بد أن يدغدغ مشاعر السياسيين فيها، خاصة أن الوصول إلى القمر مرحلة متقدمة على صناعة الصواريخ وتطويرها وإرسال الأقمار الصناعية إلى مداراتها حول الأرض، ولولا أن هذه التكنولوجيا متوفرة لدى الهند لما استطاع ساستها التفكير في هذه الخطوة الجريئة والقوية.
علماء الفضاء الهنود عملوا على نماذج عديدة من مركبة الفضاء "تشاندريان 2" قبل إطلاقها إلى القمر (رويترز)
فوفرة الموارد البشرية من علماء وفنيين ومتخصصين إلى جانب الإرادة السياسية والحاضنة الشعبية وتوفير الميزانية، جميعها عوامل كفيلة بأن تنهض بالدولة نحو هدف كبير كهذا يضعها في مصاف الدول المتقدمة التي ستعتز يوما برسوخ قدمها في الفضاء، وهي كناية عن القوة والمنعة على الأرض. أما الهدف العلمي الذي كادت أن تحققه الهند لو نجحت في الهبوط على القمر، فهو تسجيلها الرقم القياسي كأول بلد يبلغ القطب الجنوبي للقمر (خط عرض 70 درجة جنوبا)، وهو ما لم تفعله أي من الدول الثلاث الأخرى. ووصولها لتلك البقعة النائية على القمر -لو كان حدث- كان سيسهل مهمة مركبة الفضاء الأميركية أرتيمس التي تنوي وكالة الفضاء الأميركية (ناسا) إرسالها عام 2024، بالقرب من البقعة التي اختارتها الهند. ذلك لأنها ستحصل على نتائج جديدة وقيّمة، خصوصا إذا علمنا أن موقع الهبوط هو بالقرب من القطب الجنوبي المتجمد الذي بالكاد تصل إليه بقايا أشعة الشمس، مما يجعل فوهاته القمرية تضج ببصمات المجموعة الشمسية يوم تشكلها قبل 4500 مليون سنة.
الهند افتخرت بإنجازها لأنه تم بعقول وأيدي هندية وبتمويل محلي دون الاستعانة بأي خبرات أجنبية (رويترز)
الأمل الضائع
وبفقدان الهند مسبار الهبوط فيكرام، ضاع حلمها أمام خطط أميركا المقبلة عام 2024، لكنها بالطبع لن تعود من نقطة الصفر، فقد قطعت بهاتين المركبتين شوطا كبيرا نحو استيطان الفضاء، وهو ما لم تبلغه حتى اليوم أي دولة عربية أو إسلامية، بل إن أكثر هذه الدول -للأسف- لا يملك خططا جامعية لتدريس علوم الفضاء والفلك، أو حتى توحيد رؤية الهلال وبدايات الشهور القمرية، فضلا عن تأسيس وكالة فضاء عربية ناضل من أجلها لأكثر من عشرين عاما فلكيون عرب كثيرون في مقدمتهم المهندس خليل قنصل مؤسس الاتحاد العربي لعلوم الفضاء والفلك الذي قضى نحبه قبل أن يتحقق له ولزملائه الحلم الذي لا يبدو له في الأفق بصيص أمل، خاصة في ظل الظروف السياسية المعقدة التي تحياها أمتنا العربية، ولو أنه يتحقق يوما فسيكون للعرب يوما ما موضع قدم في الفضاء يزاحمون فيه الأمم الأخرى.