بدءاً بالكهوف وانتهاءً بالفنادق المبنية تحت سطح الماء، اختار البشر منذ أقدم العصور أماكن متنوعة ومختلفة وغريبةً أحياناً ليقطنوها. ولا يقلّ موضع مقالنا اليوم اختلافاً عنها وغرابةً، إذ أنه وفي نهاية عام 2014، جرى الكشف عن مدينة (ديرنكويو) في الإقليم المسمى سابقاً (كبادوكيا) –وهو الآن جزء من مقاطعة (نوشهر)– في تركيا، لتصبح أكبر مدينة تُكتشف تحت سطح الأرض.
كان الهدف الأساسي من هذه المنشأة الاحتماء من الأخطار والأعداء في أوقات الحرب، وهكذا حفر الكبادوكيون 250 مخبأً في صخور بركانية لينة تُدعى ”الطفّة“. وحينما لاح خطر في الأفق، انسحبوا تحت الأرض، وسدوا أنفاق الوصول بأبواب حجرية مستديرة، وأغلقوا على أنفسهم وماشيتهم وإمداداتهم إلى أن يمرّ التهديد. وقد كان هذا المجمّع الهائل مكتفيًا ذاتيًا ومزوّداً بأعمدة هوائية وقنوات مائية.
الأمر الطريف هو أن هذه المدينة ليست الوحيدة في المنطقة إذ تشتهر مقاطعة (نوشهر) بالمدن تحت الأرضية، لكن هذه المدينة هي حتماً أكبرها.
كيف اكتُشفت مدينة ديرنكويو ؟
اكتُشف الموقع تحت قلعة (كبادوكيا) على قمة تل في مقاطعة (نوشهر)، ويعود تاريخ الموقع على الأقل إلى العصور البيزنطية المبكرة.
إذ أنه وفي عام 2013، بدأ مشروع هدم وترميم المنازل التي أحاطت بقلعة (كبادوكيا)، وبينما شرع العمال بالهدم، اكتشفوا مداخل لشبكة من الغرف والأنفاق. نتيجةً لذلك، جرى إيقاف مشروع البناء وتم استدعاء علماء آثار وجيوفيزيائيين للبدء في إجراء التحقيقات والأبحاث.
إحدى مداخل المدينة التي اكتشفت في نوشهر تحت هذه القلعة التي تعود للعصور البيزنطية.
بعد تتبع مجموعة من المستندات الحكومية والتي تعود لأكثر من 300 عام حينما ترأس العثمانيون الحكم، عُثر على وثائق تفيد بوجود 30 نفقًا رئيساً للمياه في تلك المنطقة. وقد ساهمت هذه الأنفاق في عام 2014 في دفع العلماء لتقصي مدى عمق الغرف المكتشفة في أواخر عام 2013، ليتضح نتيجة أبحاثهم وجود مستوطنة متعددة المستويات تحوي أماكن معيشة ومطابخ ومصانع نبيذ ومصليات وسلالم ومعاصر بذر الكتان لإنتاج زيت المصابيح المستخدمة لإضاءة المدينة تحت الأرض. كما أشارت القطع الأثرية بما في ذلك أحجار الطحن والصلبان الحجرية والسيراميك إلى أن المدينة كانت قيد الاستخدام منذ العصر البيزنطي حتى الفتح العثماني.
ما مدى ضخامة مدينة ديرنكويو ؟
وفق الدراسة، يصل عمق ممرات المدينة لنحو 113 متراً تحت الأرض، وعُثر حتى الآن على 13 طبقة منها تحت الأرض. تتسع المدينة لحوالي 20 ألف نسمة. وهذا دون أن نأخذ بعين الاعتبار ماشيتهم ومؤنهم إذ أن هناك مساحات مخصصة لذلك أيضاً. قدرت مساحة هذه المدينة بـ 460 ألف مربع، على الرغم من أن المساحة الكلية لا تزال مجهولة، والرقم مجرد تقدير.
تحتوي المدينة على حوالي 15 ألف فتحة تهوية، ويقدّر عدد آبارها بحوالي 50 بئراً. كما أنها تحتوي على العديد من المخازن الواسعة. ودور العبارة إذ تضم كنيسةً يرتفع سقفها حوالي 3 أمتار.
داخل أنفاق المدينة الضخمة تحت الأرض.
تتسع وتضيق أنفاق هذه المدينة وفيما أن بعضها بعرض سيارة ضخمة لا يكاد بعضها الآخر يتسع لمرور شخص واحد، كما أنها لا تملك مدخلاً واحداً فحسب، بل لهذه المدينة عدّة منافذ ويُعتقد أن أنفاقها تنفتح وتصل إلى أجزاء أخرى في سطح الأرض وأنها قد استخدمت كذلك في نقل البضائع والمنتجات الزراعية.
تاريخها واستخدامها
صورة من أنفاق المدينة.
يعود تاريخ مدينة (ديرنكويو) إلى قبل 5 آلاف عام، وقد كانت تُستخدم في السابق وبكامل مساحتها كمخبأة للسكان المحليين في (كبادوكيا)، ولكن ومع مرور الزمن، أُهملت وأصبحت الأنفاق طيّ النسيان وهكذا بات السكان المحليون يستخدمون غرفاً وأجزاءً من المدينة تحت الأرض والتي كانت قريبة من السطح كمأوى للحيوانات حتى بداية القرن العشرين، دون أن يعلموا بمدى عمق امتداد هذه الغرف والأنفاق وما تخبئه من أسرار.
على امتداد تاريخ هذه المدينة، لم تؤثر أيّ من الكوارث الطبيعية مثل الزلازل والفيضانات في بنيتها، ولم تؤدي لانهيار أيّ من الممرات أو انسداد أيّ من الطرق ما يدل على براعة متناهية في التشييد وهندسة دقيقة في التصميم.
يعني اسم مدينة (ديرنكويو) البئر العميق، لكن السكان المحليين يطلقون عليها اسماً آخر وهو ”مدينة الجن“ ويعود سبب هذه التسمية إلى هندسة بنائها. إذ أنه وبسبب تعقيد البناء ظنّ العديد من الأشخاص أنه لا يمكن لبشري أن يبني شيئاً مماثلاً ولا بدّ أن الجن هم من قاموا بتشييدها.