19.02.21 21:59 | فيلم «الأب» من إنتاج مشترك بريطاني فرنسي: قساوة التجربة ومرارتهارقم المشاركة : ( 1 ) |
عضو vip
إحصائيةالعضو | | العمر : 29 | عدد المساهمات : 6322 | نقاط : 113672 |
|
| موضوع: فيلم «الأب» من إنتاج مشترك بريطاني فرنسي: قساوة التجربة ومرارتها فيلم «الأب» من إنتاج مشترك بريطاني فرنسي: قساوة التجربة ومرارتها
بعد مشاهدة فيلم «The Father» إنتاج مشترك بريطاني فرنسي نهاية عام 2020 يتعزز الاحساس لدى المتلقي بقسوة اللحظات التي يعيشها أشخاص يقعون تحت مرارة تجربة الخَرَف أو مرض الزهايمر، حيث تشيخ ذاكرتهم، وتتوقف عن أداء وظيفتها الطبيعية، ما يجعلها عاجزة عن إغاثتهم لفهم العالم وإدامة التواصل معه، وتتسبب هزيمتها في حدوث انكسار وانهيار علاقاتهم الإنسانية مع أقرب الأشخاص إليهم فتنهار صلتهم مع ماضيهم وتنسل الأسماء والأحداث والأماكن من الذاكرة، مثلما تسقط أوراق الشجر في موسم الخريف. ونحن نتابع أحداث فيلم «الأب» نعجز عن ان نتحكم بعواطفنا ونمنعها من التقهقر، كيف تتداعى حياة العجوز أنتوني (مثل شخصيته أنتوني هوبكنز) لما بدأ يفقد قدرته على التواصل مع ابنته وزوجها وممرضته ما إن أخذت أعراض الزهايمر تظهر عليه، ليصبح مثل طفل صغير يخفق في التعبير عما يدور في خلجاته، وتتفاقم حالته سوءا بعد ان تبدأ ذاكرته ترتكب الهفوات، فينسى مثلا اين وضع ساعته اليدوية، ويفشل في معرفة زوج ابنته آن، ويخفق في اتخاذ قرارات صائبة، مثلما فعل عندما طرد الممرضة التي تسهر على رعايته، فاتهمها بسرقة ساعته اليدوية، مع انه عثر عليها داخل شقته بعد ان كان قد وضعها في غير مكانها. قبل ان يقتحم الفرنسي فلوريان زيلر مؤلف ومخرج الفيلم عالم الإخراج السينمائي في هذا الفيلم، كان منغمرا بكل حواسه في كتابة النصوص المسرحية، حتى ان معظم العاملين في المسرح الفرنسي المعاصر يكاد ان يجمعوا على انه رغم عمره الصغير 41 عاما يعد الأهمَّ من بين كتاب المسرح، وسبق ان وصفته صحيفة «الغارديان» البريطانية «أمتع مؤلف مسرحي في عصرنا» وتشير سيرته الذاتية إلى موهبته المبكرة، ففي عام 2002 أصبح استاذا محاضرا بمعهد العلوم السياسية بباريس ولم يكن في حينه قد تجاوز الخامسة والعشرين من عمره، ثم اقتحم عالم الكتابة الروائية ليحقق نجاحا مذهلا عندما فازت روايته الأولى «ثلوج اصطناعية» بجائزة مؤسسة هاشيت، كما فاز بجائزة «انترالييه»عن روايته الثالثة «الانبهار بالأسوأ». لكنه بعد هذا النجاح وجد نفسه مهووسا في الكتابة للمسرح، فحققت نصوصه نجاحات ساحقة على خشبات المسارح الفرنسية والأوروبية، والملاحظ ان تجربته الأولى كمخرج سينمائي في هذا الفيلم لم يتنصل فيها من أسرار حرفته المسرحية، فعلى الرغم من ان الأحداث تجري في مساحة صغيرة داخل شقة ضيقة إلاَّ ان هذه التقنية المسرحية /المكانية تمكن من توظيفها سينمائياً، بالشكل الذي أصبح معادلا موضوعيا لما أصبح عليه العالم من غلاظة وتبلد في الإحساس بعد ان مس الخرف ذاكرة العجوز أنتوني. حقائق أم تخيّلات يعيش أنتوني وحيدا بعد ان تخطى العقد الثامن من عمره، ولا شيء يفعله سوى الاستماع إلى الموسيقى وقراءة الكتب، نراه جالسا باسترخاء تام على كرسي وهو يقرأ في كتاب بين يديه مستمتعا بسماع الموسيقى. فنركن نحن أيضا إلى حالة من الاسترخاء تماثل استرخاء العجوز، لكن السيناريو في ما بعد يكسر توقعاتنا مشهدا بعد آخر، فيتعزز لدينا الإحساس باننا نتابع شخصية سقطت بما يشبه كابوسا وهي في حالة يقظة، حيث نتفاجئ مثله بظهور ابنته آن (مثلتها اوليفيا كولمان) وزوجها بول، والممرضة لورا، فإذا بهذه الشخصيات تختفي بين فترة وأخرى لتحل بدلا عنها شخصيات بملامح وهيئات مختلفة ولكن بنفس الاسماء والصفات الاجتماعية، بذلك نكون أمام ثلاث شخصيات تنشطر لتتحول إلى ست. وكأن الزمن الذي يتحرك بشكل عبثي يمضي في جريانه وفق قواعد لا منطقية، لكنها بنفس الوقت تبدو طبيعية ومنطقية ولا تستدعي استغراب الشخصيات الست، حتى ان العجوز هو الآخر يتلقى اللامنطقية في الحركة بردود أفعال طبيعية، لانه لم يعد مدركا لحقائق العالم الذي يحيطه، بعد ان دخلت ذاكرته في مرحلة معقدة، غدت فيها الأشياء والوقائع ضبابية، هل هي ملموسة أم مجرد تخيلات؟ أزاء الحال الذي وصل إليه أنتوني تجد ابنته نفسها عاجزة عن ان تحل محل الممرضة التي طردها، لانها مضطرة إلى ان تغادر لندن لتقيم في باريس مع حبيبها، فتحاول خلال اللحظات التي تقضيها مع والدها في الشقة ان تجعله يشعر بالمتعة عندما تزمع ان تطهو له دجاجة، ولكن ما ان تعود من التسوق، يكتشف بان لا وجود لدجاجة، ولا شخصية آن وبدلاً من ذلك يتفاجأ بوجود ممرضة جديدة لها نفس اسم الممرضة السابقة، كما يظهر طليق آن الذي يصفع العجوز على وجهه أكثر من مرة، وسيتفاجأ أيضا بأن ابنته لم تكن متزوجة، ولم تعد موجودة في إنكلترا. تداخل الزمن سيناريو الفيلم يواجهنا بزمن مزدحم بالأحداث والحوارات التي تتكرر مع تغير الشخصيات، وهذا السياق في الحبكة يقودنا إلى الإحساس بتداخل حركة الزمن بين الماضي والحاضر، ويصبح بالتالي من غير الممكن التمييز بينهما، كما يرسخ فكرة الفوضى والانهيار التي باتت عليها ذاكرته حتى بدا عاجزا عن فك الاشتباك بين الماضي والحاضر، ومن نتائج إصابته بالخرف انه لم يعد متيقنا من الأحداث التي عاشها والشخصيات التي عرفها، كما تداعت امكاناته في التفكير والسلوك المنطقي، فأصبح في ردود أفعاله عندما يضحك ويبكي ويتحدث أقرب إلى سلوك طفل صغير، وبمقتضى هذا السياق نكون أمام لعبة درامية تنتظم فيها سلسلة مفاجآت، وهكذا يضعنا السرد السينمائي أمام ست شخصيات تتحرك مثل بيادق الشطرنج محطمة بذلك توقعاتنا في تبادلها للأدوار وتنقلاتها السريعة والمباغتة، وهذا ما سيدفع بنا إلى ان نتقاسم مع الرجل العجوز العالم الغامض الذي وجد نفسه فيه، ولنتشارك واياه حالة التأرجح بين الحيرة والإرباك. تقنية مسرحية في رؤية سينمائية ما ينبغي الإشارة إليه ان هذه التغيرات المربكة تجري في لعبة سردية سينمائية تم سحبها من عالم المسرح الذي تحتمل آلياته الدرامية الانتقال بين الأحداث والأمكنة وفق تقنيات لا واقعية، حيث بالامكان ان يتداخل الوهم مع الواقع وفق علاقة شرطية متفق عليها بين المتلقي والعرض المسرحي، والتحاور مع العالم المسرحي فرض حضوره لان سيناريو الفيلم استند على نص مسرحي بعنوان «الأب» لمخرج الفيلم نفسه، وسبق ان تم تقديمه على خشبة مسرح «هيبرتو» الفرنسي عام 2012 ونال نجاحا مدويا مما أهله ان ينال جائزة «موليير» التي تعد في المسرح الفرنسي من أرفع الجوائز، ثم جاءت النسخة السينمائية الجديدة في نهاية 2020. سحر الأداء وجد هوبكنز في شخصية العجوز أنتوني المكتوبة بعمق واضح، مساحة من الإشتغال تفرض عليه تحديا كبيرا، خاصة وان هناك تقاربا مع الشخصية من حيث العمر، رغم انه صرح في أكثر من لقاء، بانه لم يجد صعوبة في تقديمها، وما يعنينا انه تحرك بين لحظات عاطفية بغاية التعقيد، توزعت بين الغرور والخوف والغضب والرقة، ومسيرته كممثل تؤكد لنا بانه مهووس بأداء مثل هذه الشخصيات، وهنا تتجلى فرادته لانه يدرك جيدا أهمية ان يحافظ على الأداء لتحقيق التناغم، ولكي لا يسقط في الاستعراض كما يحدث لدى الكثير من الممثلين عندما يؤدون مثل هذه الشخصيات، وهوبكنز سليل مدرسة المعلم الروسي ستانسلافسكي (1863 -1938) في التقمص الداخلي للشخصية، وبما يملك من خبرة متراكمة في التعامل مع الشخصيات المركبة، كان من الطبيعي ان نجده على قدر كبير من الحرفية وهو يمسك بتفاصيل الشخصية، ولم ينجرف إلى المبالغة، مع وفرة المشاعر المختلطة التي نسجها المؤلف بنعومة فائقة، فقدمها لنا بمهارة ساحر يملك الحرفية للسيطرة على حواس المتلقين سواء في تحكمه بتقنيات التعبير الصوتي أو الجسدي، وبطاقة تعبيرية نقلتنا إلى إحباطات الشيخوخة عندما يقضي التعب والفوضى والإرباك على قدرات الإنسان العقلية، فنجده ينهار ويبكي مثل طفل صغير على والدته راجيا ان تحضر لانقاذه، وكان هوبكنز في هذا المشهد قد وصل إلى مرحلة من الأداء المذهل والمؤلم في آن، فلا غرابة في انه وضعنا أمام انفسنا إذا ما قادنا التقدم في السن إلى ان نمر بمثل هذه التجربة، ولن نبالغ إذا ما قلنا بأن هوبكنز صاحب التاريخ العريق المرصع بالشخصيات الشكسبيرية على خشبة المسرح البريطاني، وفي أداء شخصيات غريبة في مشاعرها ومواقفها وتركيبتها النفسية على شاشة السينما، قدم لنا في هذا الفيلم واحدا من أعظم فصول الأداء في مسيرته الفنية الحافلة بالانجازات. وما يثير الإعجاب في أدائه بعد ان تخطى عتبة العقد الثامن من عمره ان جذوة الحماس لديه لم تنطفئ بعد لإثبات قدراته، وتصرف مثل شاب طموح هاوٍ لفن التمثيل، وبدا كما لو انه يخوض قتالا شرسا لإثبات موهبته وامتحانها في أدق التفاصيل، بمعنى انه ما يزال لم يرتو من نبع التمثيل مع انه بدأ مسيرته الفنية قبل أكثر ستين عاما، وفي هذا الدور وصل إلى ذورة العطاء الذي يمكن ان يقدمه الممثل، لانه لم يتعكز على تنميطات جاهزة لخداع المتلقي واستقطاب اعجابه، بل تعامل مع الشخصية منطلقا من دوافعها وحالاتها النفسية، ورسم من خلالها على الشاشة صورتها الداخلية في حضور مرئي، وهذا يدفعنا إلى ان نستبعد مقارنته مع أي ممثل آخر، بمن فيهم اولئك الذين ينهلون من طريقة ستانسلافسكي ربما نستثني من ذلك الممثل الانكليزي الفذ والمعتزل مبكراً دانيال دي لويس الحائز على ثلاث أوسكارات، والذي لم ينافسه بهذا الامتياز أي ممثل آخر خلال تاريخ هذه الجائزة التي ابتدأت عام 1929. والحديث عن الأداء التمثيلي يقودنا إلى التوقف عند الممثلة اوليفيا كولمان التي أدت شخصية آن ابنة العجوز، وسبق لها ان فازت بالأوسكار، ولاشك أن حضورها إلى جانب هوبكنز قد رفع من سقف التنافس على الأداء، ومنحنا مباراة شديدة السخونة بين اثنين من أرفع الممثلين الانكليز. |
| |