تشكل حديقة "ماستر أوف ذا نتس" الهادئة في سوجو أحد أكثر المزارات شعبية في المدينة عندما يسعى سكان مدينة شنغهاي الصينية للهرب من مشاغل حياتهم اليومية فإنهم يقصدون تلك المدينة الوادعة العامرة بالحدائق والقنوات المائية. إنها مدينة سوجو ذات المعالم التاريخية. يمكن أن تكون الحياة في مدينة شنغهاي الصينية، إحدى أكثر مدن العالم اكتظاظا بالسكان، منهكة لقاطنيها، وهو ما يحدو بهم للبحث دوما عن سبل للفرار من تلك المدينة الغاصة بناطحات السحاب وحركة المرور الكثيفة. ومن بين خياراتهم المفضلة في هذا الشأن، مدينة سوجو التاريخية القابعة على بعد لا يتجاوز 100 كيلومتر إلى الشرق من شنغهاي، تلك المدينة الصينية الكبيرة، إذ لا يزيد زمن الرحلة بين المدينتين على 30 دقيقة بالقطار فائق السرعة. وتشكل مدينة سوجو، التي أسست عام 514 قبل الميلاد على يد الملك هيلو في عصر مملكة وو، إحدى أقدم مدن دلتا نهر اليانغتسي وأكثرها ازدهارا. ومنحها موقعها بين نهر اليانغتسي شمالا، وبحيرة تيهو إلى الغرب، إمدادات وفيرة من المياه، تكفي لتغذية قنواتها وري حدائقها التقليدية التي تشتهر بها في مختلف أنحاء العالم. وظهرت أولى الحدائق في سوجو خلال القرن السادس قبل الميلاد. ولكن المدينة شهدت، خلال ذروة ازدهارها (بين عامي 1500 إلى 1700)، إنشاء أكثر من 800 من هذه البقاع الهادئة الخلابة، التي صممها علماء وباحثون لمحاكاة الطبيعة الغناء ولكن على مساحات أقل. ولا تزال 60 من هذه الحدائق باقية حتى اليوم للراغبين في استكشاف معالمها، ومن بينها تسعٌ مدرجة على قائمة منظمة اليونسكو لمواقع التراث العالمي.
تُذّكِر القنوات المائية الضيقة زوار سوجو بالوقت الذي كانت فيه المدينة أقل سكانا كانت محطتي الأولى حديقة "هامبل أدمينستراتور غاردن" (حديقة الحاكم المتواضع)، وهي الأكبر على الإطلاق في المدينة، وتقع إلى الشمال من الحي التاريخي فيها. وأنشئ هذا المتنزه المنعزل، الذي يمتد على مساحة 52 ألف كيلومتر مربع بين عامي 1510 و1516، بأوامر من المفوض السياسي والشاعر المنهك "وانغ شيانغ تشينغ"، الذي كان يرغب في تهيئة مكان يقضي فيه فترة تقاعده في هدوء وسلام.
وبمجرد دخول زائر الحديقة من بواباتها العالية، يجد نفسه إزاء متاهة من الممرات المرصوفة بالحصى تقوده إلى أجنحة ومقصورات صغيرة تتناثر في مختلف أنحاء المكان، قابعة على تلال صخرية منخفضة الارتفاع. وبفضل الأسقف المقوسة لهذه الأجنحة، تتوافر أماكن ظليلة للجالسين لنيل قسط من الراحة على المقاعد الخشبية الموجودة تحتها.
وفي وسط الحديقة، يوجد عدد من البرك التي تتصل ببعضها البعض، عبر مجارٍ مائية ضيقة تمر أسفل جسور ساحرة، تزخر بأسماك سريعة الحركة، ذات لونين برتقالي وفضي.
كان هناك 100 على الأقل من محبي الفن والطبيعة، يحاولون رسم هذه المناظر الطبيعية الخلابة على الورق. وجلس طلاب الفنون الجميلة بكراسات الرسم الخاصة بهم وحواملها على درج تلك الأجنحة والمقصورات أو على الصخور الملساء الكبيرة الواقعة بجانب البركة الرئيسية، تلك التي لا تكاد تراها بفعل الأوراق العملاقة لنبات اللوتس، لتكتمل بذلك ملامح مشهد بديع وإن كان غاصا بالتفاصيل.
وغير بعيد عن هذا المكان، قصدت متحف "سوجو غاردن" (متنزه سوجو) الذي لا يحتاج زائره لشراء بطاقة دخول. وبداخل المبنى منخفض الارتفاع، الذي شُيّد على طراز مينغ، يجد المرء تصميمات للمناظر الطبيعية، وضعها فنانون عملوا لحساب بعضٍ من صفوة سكان سوجو، في ظل حكم سلالتي مينغ (1368 – 1644) وشينغ (1644 – 1912).
فعلى مدى مئات السنين، نَعُمتْ هذه المدينة بطبقة راقية كبيرة، بفضل ما شهدته من ازدهار ناجم عن الأرباح التي جنتها من نشاطها التجاري والصناعي، ما جعل اسمها مرادفا للثقافة الرفيعة والأدب والتأنق.
يمكن أن ينعم زوار سوجو بالتجوال في قنواتها المائية على متن أحد هذه القوارب في ذلك الوقت، كان يُعتقد أن ذاك الجمال غير المتوقع للطبيعة أتاح لمثقفي هذه المدينة الصينية الفرصة للتفكير السليم. كما عنى أن امتلاك حديقة كان أمرا ضروريا، ليصبح وجود مساحة خضراء جزءا من أي بيت في سوجو.
وبينما تنافست النخبة في ابتكار تصميمات معقدة لحدائقهم، لم يتخلف حتى من يعانون من الفقر المدقع عن الركب، إذ زرع هؤلاء بعض الشجيرات في أفنية منازلهم.
رغم ذلك، فثمة اختلافات كبيرة بين الحدائق التقليدية الصينية ونظيرتها الموجودة في الغرب. فالصينيون يرون أن الأوروبيين يرغبون في قهر الطبيعة والإبقاء على النباتات والشجيرات ضمن حدود وضعوها هم بأنفسهم. أما المصممون الصينيون للحدائق، فهم يسعون - في المقابل - إلى إيجاد أقصى قدر ممكن من التناغم والانسجام بين البشر والطبيعة.
ويعني ذلك أن الشجيرات والنباتات والأشجار والزهور، تنمو في حقيقة الأمر، بشكل محدد ومخطط حول الأجنحة والمقصورات وبرك المياه والجسور، لتعكس الإدراك الصيني لمفهوميّ التوازن والانسجام، رغم أن نموها يبدو في الظاهر وكأنه يتسم بالعشوائية. وفي إطار الفلسفة الصينية في هذا الشأن، تلعب الصخور على وجه الخصوص دورا محوريا، إذ ترمز للجسر الواصل ما بين البشر والطبيعة. وبرغم أن هذه الأحجار تبدو وكأنها متناثرة بلا نظام، فإن مواضعها بين الممرات التي أعدها البشر وعناصر الطبيعة الموجودة في الحديقة، مثل الشجيرات والأشجار ومساقط المياه، مُنتقاة بعناية بالغة.
ومن شأن زيارة الحي التاريخي محدود المساحة في سوجو، تمكين المرء من التعرف على الملامح التي كانت عليها المدينة في أوج عظمتها. فهناك، سيجد منازل بيضاء اللون مؤلفة من طابقين، شُيّدت على طراز مينغ، لتطل على قنوات مائية وادعة تحف بها أشجار صفصاف رشيقة، وجسور حجرية مفعمة بالحيوية، ودرجات سلالم تنحدر من على ضفاف هذه القنوات.
تشكل الفطائر التقليدية التي تُعد مع الحساء والمعروفة باسم "جيانولباو" وجبة مفضلة في سوجو وبذلك يتجلى تناقض لا يُضاهى بين الحال في سوجو وناطحات السحاب البراقة التي تغص بها شنغهاي، وحركة المرور الكثيفة التي تعج بها شوارعها.
وفي بعض الأوقات، يبدو الشارع الرئيسي في هذه المدينة الصينية؛ بينغ يانغ لو، قِبلةً للسائحين بما يعج به من باعة يعرضون كل شيء تقريبا، بدءاً من الفطائر المغطاة بشوكولا النوتيللا، إلى المراوح الصينية ذات الألوان البراقة.
لكنني عندما زرت سوجو لم أجد ما يجذب الانتباه إلى قواربها التقليدية خشبية الصنع، التي تجوب القنوات المائية، بقيادة مسنين بائسين لم يبدُ أي منهم متلهفا على أخذ نقودي مقابل قيامي بجولة على متن أحد هذه القوارب.
وعند تقاطع شارعيّ "بينغ يانغ لو" و"بايتا لو"، قررت التوقف لتناول غذاء خفيف من فطائر "الزلابية" الطرية في مطعم "تشي جيان هو جيان" المتواضع. وتشتهر منطقة "جيان جينان" التي تقع فيها كلٌ من شنغهاي وسوجو، بهذا اللون الشهي من الطعام، وهو عبارة عن طبق صغير من الفطائر التي تُعد على البخار، وتقدم مع حساء يحتوي على الكثير من قطع اللحم.
وشكلت بحيرة جينجي، الواقعة على بعد سبعة كيلومترات إلى الشرق من مدينة جوسو، محطتي الأخيرة في يوم زيارتي تلك. ويُشار إلى أن "جينجي" هي واحدة من العديد من البحيرات الواقعة في هذه المنطقة، والتي تساعد على جلب الهواء العليل للمدينة.
تشكل سوجو ذات الطبيعة الخلابة بقعة مُلهِمةً للفنانين وبدا المشهد الطبيعي عند البحيرة رحبا منطلقا، ومغايراً لطابع الحواري والأزقة الضيقة في الحي التاريخي لـ"سوجو". وخلال مسيرتي على طول ممر خشبي متعرج طويل يمضي بمحاذاة مياه البحيرة، لم يقطع السكون المخيم على المكان سوى صدى خطواتي فضلا عن أصداء أحاديث هامسة تسري فوق الماء.
أما الزوار القليلون الذين كان بمقدوري رؤيتهم، فقد كانوا يستأجرون دراجات، بعضها بمقعدين وبعضها الآخر مزود بثلاث عجلات، في الجانب الغربي من البحيرة. وعلى الجانب الآخر، كانت ملامح دولاب دوار تلوح وسط الضباب، بجانب سلسلة من المباني العالية، وذلك في وقت اتجهت فيه القوارب صوب جزر صناعية في وسط البحيرة.
وعندما أخذتني قدماي إلى أبعد من ذلك قليلا، تناهى إلى مسامعي جانب من ثرثرة سيدات عجائز كُنّ يتحدثن بلهجة سوجو الثقيلة. في نهاية المطاف، شعرت بمشاعر راحة واسترخاء تغمرني. ولو كان قد تسنى لي مزيدٌ من الوقت، كنت سأخيم عند بحيرة تيهو جنوب غربي المدينة، أو كنت قد زرت بلدة تونغلي التاريخية الشهيرة في المنطقة الجنوبية منها. ولكنني على أي حال، اكتفيت بأن أقف ساكنا لأنصت إلى تغريد الطيور وأصوات القوارب وهي تنثر المياه على جانبيها، مُستمتعاً بأجواء العزلة والسلام هذه، قبل أن أعود أدراجي إلى شنغهاي، حيث الصخب والضجيج. يمكنك قراءة الموضوع الأصلي على موقع BBC Travel.