أربعة أطباء عظماء كانوا حجر أساس النهضة الطبية في العصور الوسطى
أربعة أطباء أنجبتهم الحضارة العربية الإسلامية، تألّقوا كالنجوم في سماء علم الطب، وتركوا أثراً خالداً وبصمةً لا تنسى في مسيرة هذا العلم، واستحقوا -بلا منازِع- أن يكوِنوا أعظِم أربِعة أطِباء فيِ العِصور الوسطِى.
أبو بكر الرازي:
ربّما يكون أبو بكر الرازي هو أعظم الأطباء المسلمين على الإطلاق وأكثرهم شهرة. ولد في مدينة الريّ قرب طهران عاصمة إيران حالياً، وعاش أغلب حياته متنقلاً بين بغداد والريّ، نبغ في علم الطب في وقت مبكر من حياته وأظهر براعة كبيرة في تشخيص الأمراض المستعصية وتركيب الأدوية المناسبة لها، وسرعان ما عمّت شهرته الآفاق وقصده طلاب العلم من شتّى البقاع وأصبح مطلوباً في بلاط الملوك والأمراء.
لقد ترك الرازي أثراً كبيراً في تطوير الممارسة السريرية وخاصّة الشق التشخيصي منها، وإليه تُنسب مآثر طبيّة عديدة منها: تصنيع الخيوط الجراحية من أمعاء الحيوانات وهي خيوط قابلة للامتصاص من جسم الإنسان بعكس خيوط الحرير والنايلون غير المُمتصّة – تركيب عشرات الأدوية الجديدة من مواد نباتية وحيوانية ومعدنية واستخدامها في علاج مختلف الأمراض. وصنّع بنفسه أيضاً أنواعاً من المراهم والكريمات لعلاج الجروح الملتهبة والحروق الواسعة.
وترك لنا الرازي مئات الرسائل والكتب من أهمّها موسوعته الطبية الشهيرة المعروفة باسم ( الحاوي في الطب ) AL- Hawi or Comprehensive book on medicine، والذي ضمّ أكثر من 25 جزءاً جمع فيها خلاصة طب الحضارات القديمة وخاصة رسائل أبقراط المعروفة باسم Hippocratic corpus. وفي عام 1279 قام أحد العلماء العرب بترجمة كتاب الحاوي إلى اللغة اللاتينية وقدّمه كهديّة لملك نابولي Charles، وهكذا وصل الكتاب العظيم إلى أوروبا وترجم إلى مختلف لغاتها، وبدأ يُدرّس في جامعاتها ومدارسها الطبيّة.
ومن بين كتبه المهمّة أيضاً رسالة الجدري والحصبة On Smallpox and Mesles، وتعتبر هذه الرسالة من أوائل الإشارات إلى الطبيعة الوبائية المعدية للأمراض، وبوسعنا أن نحكم على ما كان لهذه الرسالة من بالغ الأثر واتساع الشهرة إذا عرفنا أنها طبعت باللغة الإنكليزية أربعين مرّة بين عامي 1498 و1866!
ابن سينا:
رأي أستاذ تاريخ العلوم الدكتور جورج سارتون George Sarton فإن الفيلسوف ابن سينا (هو أعظم علماء المسلمين)، وقد برع في مختلف أنواع المعرفة وخاصة الطب والفلسفة، ولُقّب بالشيخ الرئيس، وله العديد من الإبداعات والممارسات الطبية المميزة؛ فهو أول من وصف القولنج الكلوي الناتج عن حصيات الحالب والمثانة واقترح عدة طرق لعلاجه، وكذلك فإن توصيفه لالتهاب السحايا مثير للدهشة لدقته وأصالته، وبحث أيضاً في علم الطفيليات وتحدّث بالتفصيل عن عدة أنواع من الديدان المعوية التي تصيب الإنسان
ولكنَّ شهرته الطبية تعود بشكل أساسي لكتاب ( القانون في الطب ) The Canon of medicine الذي استغرق أغلب عمره في تأليفه وأكمله عام 1025، وقسّمه لخمسة أبواب رئيسية: الأول يبحث في مبادئ وأساسيات علم الطب والفيزيولوجيا، الثاني سردَ فيه مئات الأدوية والعقاقير الطبية مع ذكر خصائصها واستطباباتها وحدّد جرعاتها العلاجية، الثالث تحدث عن الأمراض التي تصيب عضواً بمفرده من الجسم ووصف أعراضها وعلاجها، الرابع وفيه تحدّث عن الأمراض التي تؤثّر على الجسم بأكمله، الخامس خصّصه بشكل كامل لعلم الصيدلة.
لقد تفوّق كتاب القانون في الطب على جميع الكتب الأخرى التي سبقته وحلّ محلّ كتب أبقراط وجالينوس والرازي وتُرجم في القرن الثاني عشر الميلادي إلى اللاتينية على يد الإيطالي جيراردو الكريموني Gerard of Cremona، ومنها ترجم إلى العبرية وسائر لغات أوروبا، وبقي المرجع الأول في الطب في أغلب أنحاء العالم لأكثر من 600 عام. وعنه قال الدكتور وليام أوسلر: “إن كتاب القانون في الطب ظلّ الكتاب الطبي المقدس في العالم أكثر من أي كتاب آخر”. ولا أدلّ على أهمية هذا الكتاب وعظمته من أنّه كان من بين الكتب القليلة التي طبعها غوتنبرغ Gotenberg عندما اخترع أول آلة طباعة في منتصف القرن الرابع عشر.
الزهراوي:
هناك ما يشبه الإجماع على وضع الطبيب العربي الأندلسي أبو القاسم الزهراوي على رأس جرّاحي العصور الوسطى، ويعود ذلك لإنجازاته العظيمة في علم الجراحة، فقد اخترع بنفسه عشرات الأدوات الجراحية (لا يزال بعضها مستخدماً حتى يومنا هذا)، وقام بعمليات جراحية نوعية وجديدة، ومن الإبداعات التي تُنسب إليه: أنه أول من استخدم القسطرة البولية لحل مشاكل الانسداد البولي الحاد والمزمن، ووصف طريقةً لردّ خلع الكتف ما زالت هي الطريقة المستخدمة حتى عصرنا الحاضر، واستخدم طرقاً عديدة لإيقاف النزف كربط الشرايين الكبيرة ووضع القطن والشاش على الجروح كمواد مرقئة، وقد وصف أيضاً طرقاً تجميلية في خياطة الجلد تُحسِّن عملية التندب وتعطي منظراً جمالياً أفضل من الخياطة العادية
عاش الزهراوي أغلب حياته في قرطبة عاصمة الأندلس، وبعد سنين طويلة من الخبرة الطبية والممارسة السريرية ألّف كتابه العظيم ( التصريف لمن عجز عن التأليف ) AL-Tasrif وحاول أن يجمع فيه كل معارف زمانه في الطب والصيدلة وطب الأسنان، ومع أن قيمة الكتاب العلمية لا تقارن بكتاب القانون مثلاً، ولكن للجزء الثلاثين منه أهمية بالغة لأنه خصصه للجراحة، وفيه شرح بالتفصيل كل ما أبدعه في هذا العلم، وتُرجم هذا الجزء إلى اللغة اللاتينية تحت اسم ” مقالة الزهراوي في الجراحة “، وأحدثت هذه المقالة بعد انتشارها في أوربا نقلةً نوعية في علم الجراحة، وساهمت في تطوّر هذا العلم بشكل كبير، وجعلت الزهراوي يتبوّأ مكان الصدارة بين جراحي عصره ويعتبر أحد أهم مؤسّسي الجراحة الحديثة.
ابن النفيس:
يعتبر الطبيب الدمشقي علي بن أبي الحزم القرشي من أهم الأطباء العرب وأشهرهم، وقد برع بشكل خاص في علم الفيزيولوجيا وعلم وظائف الأعضاء حتى فاق أطباء عصره في هذا المجال.
لقد ولد ابن النفيس في غوطة دمشق، وسافر في شبابه إلى القاهرة، وهناك ظهرت مواهبه العلمية وأصبح رئيساً لأطباء مصر.
إنّ أهميّة ابن النفيس الطبية تعود لأمرين: أولهما أنه أعطى تصوّراً جديداً عن الدورة الدموية الصغرى (دوران الدم بين القلب والرئتين)، وانتقل هذا التصوّر بعد سنوات عديدة إلى أوروبا وساهم في فهم أفضل لتشريح وفيزيولوجيا جسم الإنسان، وساعد وليم هارفي William Harvey في اكتشافه للدورة الدموية وعمل القلب، وأمّا الأثر الثاني الخالد لابن النفيس فهو تأليفه لعشرات الكتب والرسائل الطبية ومنها: شرح تشريح قانون ابن سينا، شرح فصول أبقراط، الموجز في الطب، بالإضافة إلى موسوعته الطبية الضخمة التي أسماها ( الشامل في الصناعة الطبية ) AL-Shamil Fi AL-Tibb وهو من أكبر كتب الطب وأغزرها مادة علمية.
إننا إذا قمنا بمراجعة دقيقة لتاريخ علم الطب يمكننا أن نستنتج وبدون أدنى شكّ: أنَّ أبو بكر الرازي هو أعظم طبيب في العصور الوسطى، والزهراوي أعظم جرّاح فيها، وابن النفيس أعظم فيزيولوجيّ، وأنّ كتاب القانون لابن سينا هو أعظم كتب الطب في ذلك العصر على الإطلاق!
وقد كان لهؤلاء الأطباء الأربعة تأثير كبير على مسيرة الطب وتطوّره، وقد حملوا لواء هذا العلم الجليل لفترة طويلة وشكّلوا حلقة الوصل بين أبقراط وجالينوس وغيرهم من أطباء العالم القديم من جهة، وبين أندرياس فيساليوس وألبرت هاللر وجيوفاني مورغاني وبقية أطباء عصر النهضة من جهة أخرى.