منذ الديوان الأول للشاعر السوري نزار قباني "قالت لي السمراء"، المنشور عام 1944، لم يفلت من المصادرة والمنع ومطاردة كل الأصوليين في المجتمع العربي، والمرجعيات القديمة، دينية وسياسية، ممن وجدوا في لغته وشعره تهديداً لشرعيتهم، وتحريضاً للخروج عليها. فيقول في كتابه "قصتي مع الشعر": "تحرك التاريخ ضدي وتحرك التاريخيون، رفضوا الكتاب جملة وتفصيلاً، رفضوا عنوانه ورفضوا مضمونه، رفضوا حتى لون ورقه وصورة غلافه، هاجموني بشراسة وحش مطعون، كان لحمي يومئذ طرياً، وسكاكينهم حادة، وابتدأت حفلة الرجم". ولعل أكثر ما واجهه الشاعر، هو محاولة تعليبه واختزال قصائده وتقليص مساحة شعره الحقيقية. هذه النظرة التبسيطية دأبت على تكوين صورة انطباعية حول شعره، على أنه يروّج للإباحية والمجون، للسيطرة على جموحه وتصفية إبداعه وهمه الإنساني. فعانى قباني من ذلك الأمر، وكان واعياً للحصار جراء تلقيبه "بشاعر المرأة"، وأشار في افتتاحية ديوانه "لا غالب إلا الحب": "إنني لا أنكر وفرة ما كتبت من شعر الحب، ولا أنكر همومي النسائية، ولكنني لا أريد أن يعتقد الناس أن همومي النسائية هي كل همومي". حاول قباني في قصائد كثيرة رد القيمة والاعتبار للإنسان الفرد، وتخليصه من سلطة القبيلة. وفي ما خص المرأة، تصدّى لكل الأفكار الآثمة عنها، وللتعامل معها بريبة واستحياء. فالمرأة التي شاء أن يحررها من قبضة كل النصوص التي تقهرها، والأشخاص الذين يحتكرونها، كانت تشكل لديه وطناَ رمزياً يعاني المصير نفسه من القهر والاستغلال. فتحرر المرأة وإزالة كل الأحجبة عنها مرهونان بالكشف عن ثنائية القهر والتعذيب، اللذين يقبع فيهما المجتمع بأسره. خبز وحشيش وقمر كتب نزار الشعر السياسي في مرحلة مبكرة من عمره الشعري، وليس كما يتصور البعض، أن ميلاد قصيدته السياسية كانت مع "هوامش على دفتر النكسة"، بعد هزيمة يونيو 1967. فقد سبقتها قصيدته الأولى "خبز وحشيش وقمر"، التي نشرت أثناء بعثته الدبلوماسية في لندن عام 1954، وجاءت محملة برمزية مكثفة وشديدة الوضوح في معناها، وبإرهاصات الهزيمة وتعرية الواقع السياسي والاجتماعي العربي، وترهلاته الشديدة وثقافته المشوهة، وبنية تفكيره التي يتسول داخلها الماضي، برداء العصمة والقداسة، فيحجب عنه التفكير، ويخشى معه المواجهة.
وناله هجوم شديد إثر نشرها، وتكفير من أصحاب العمائم، بلغت حد طرده من وظيفته بوزارة الخارجية السورية، ووُصفت القصيدة أنها تتعدى على المقدسات الإسلامية. وذكر في كتابه "قصتي مع الشعر" هذه الواقعة: "إنها العمائم نفسها التي طالبت بشنق أبي خليل القباني طالبت بشنقي، والذقون المحشوة بغبار التاريخ، التي طلبت رأسه، طلبت رأسي، فكانت خبز وحشيش وقمر، أول مواجهة بالسلاح الأبيض بيني وبين الخرافة والتاريخيين".
أقوال جاهزة شاعر الحب نزار قباني كان أكثر جرأة من مفكرين وسياسيين كثر أصر الكثيرون على تعليب نزار قباني في صورة من يروّج للإباحية والمجون، فغطى ذلك على قصائدة السياسية وجرأته فيها
كان هذا التعليق رد فعل مباشر في حينها، عندما طالب الشيخ مصطفى الزرقا عام 1955، عضو مجلس النواب السوري، عن جماعة الإخوان المسلمين، بمحاكمة الشاعر، ووقفه عن العمل بوزارة الخارجية. عبرت القصيدة عن حالة الجمود والتردي في حياة المواطن العربي، الذي يقامر على وجوده، ويتهالك على نفي ذاته، عبر استدعاء آخرين يمثلونه والاتكال عليهم، وتتجلى تلك الحالة في التاريخ، بدءاً من حضور الله والمقدس، الذي ينتظرون منه الرزق والوفرة والخير. وانتقالاً من السلطة الماورائية، تطغى سلطة أصهار الله وظله على الأرض، في مصادرة مستمرة لحقه في الحياة. وكتب فيها:
ما الذي يفعله قرص ضياء ببلادي.. ببلاد الأنبياء وبلاد البسطاء ماضغي التبغ وتجار الخدر ما الذي يفعله فينا القمر فنضيع الكبرياء ونعيش لنستجدي السماء ما الذي عند السماء لكسالى.. ضعفاء
هذه الكتابة التحريضية دأبت على فضح الواقع والمسكوت عنه، وتجاوز التابوهات، والتخلص من النصوص القديمة، والتهيئة لفضاء حر. وبلغت ذروة القصيدة في تحدي قباني الصريح للصورة الشعبوية عن الله، الذي أضحى مجرد صنم، تشعر معه بوطأة المجهول الذي يرافق حياتهم، طالما رهنوا إرادتهم بالسماء، وتعلقوا بمشيئتها بلا عقل أو رأس أو أقدام.
أيها الرب الرخامي المعلق أيها الشيء الذي ليس يصدق دمت للشرق لنا عنقود ماس للملايين التي عطلت فيها الحواس
قباني وهزيمة 67 شطرت هزيمة 1967 نزار قباني إلى عدة شظايا متناثرة. لم تكن مجرد هزيمة عسكرية فادحة، لكن انهار معها النظام العربي الذي تأسس بتأثير دعاية ضخمة وشعارات كبيرة وأيديولوجيا صاخبة، ترفع قيم التقدم والحرية، لكنها في الواقع تمارس القمع والإذلال لشعوبها. فالأنظمة امتهنت الكذب الذي اعتمد على جهاز دعائي، مارست فيه السلطة هواياتها بالتضليل، وبث خطاباتها العنترية. وكتب قباني في قصيدته "هوامش على دفتر النكسة": "فإذا خسرنا الحرب فلا غرابة لأننا ندخلها بمنطق الطبلة والربابة". كانت القصيدة المذكورة نعياً للعرب وللفكر الذي قاد إلى الهزيمة، وفتحت تساؤلات عن هويتنا وموقعنا من التاريخ، تحت وطأة جرح الذات العربية. فجاءت بمثابة صحيفة عزاء لا تتوسل سوى جيل جديد "يقتل الأفيون في رؤوسنا"، ويحدث قطيعة تامة مع جيل الهزيمة. منع نزار من دخول القاهرة بسبب قصيدته، وتمت مصادرة أعماله وحظرها من النشر، ووقف بث أغانيه في الإذاعات المصرية، حتى تمكن من كتابة رسالة إلى عبد الناصر، فرفع هذا الحظر عنه. لكن هذه المرة تعرض صاحب "الرسم بالكلمات" إلى نقد لاذع وهجوم من نوع آخر، قدمه الناقد والمفكر الماركسي غالي شكري في كتابه "شعرنا الحديث إلى أين". فقال عنه: "أصبح شاعرنا نجماً لامعاً يتفوق على النجم الذي كانه في القديم واستمرأ اللعبة على نحو مختلف، وواصل كتابة قصائده السياسية على نمط الهوامش". لا تنحصر قصيدة قباني السياسية عند حدود الجهاز السياسي أو السلطة، لكن تتعداها إلى الشعوب المنسحقة تحت حذاء السلطان بدون حس نقدي تجاه واقعها، وبدون سعي إلى تعديل شروط حياتها. فكان خطابه الشعري يتوجه للجماهير بالتحريض والنقد الشديدين، حتى أنه في قصيدة "الهوامش"، تنصل من أي مستقبل قد يقوده جيل الهزيمة. جلودنا ميتة الإحساس أرواحنا تشكو من الإفلاس أيامنا تدور بين الزار والشطرنج والنعاس هل نحن "خير أمة قد أخرجت للناس"؟
رصد الواقع اليومي رصدت قصائد قباني كل عناصر المأساة والملهاة في واقعنا اليومي. في "اليوميات السرية لبهية المصرية"، هاجم الرئيس المصري أنور السادات، بعد تبنيه سياسة السلام مع الكيان الصهيوني، والتطبيع مع العدو التاريخي للعرب. صوره بهلواناً ومهرجاً، ومثل الحواة "يلبس في نيويورك جبة الحاخام ويقرأ القرآن بالعبرية ويرفع الأذان بالعبرية". وخاطبه بهجاء شديد وسخرية:
كيف يا أنور.. المأساة تصبح إسرائيل في طنطا وفي بنها وفي إيلات ويا للعجب
وفي قصيدة "المهرولون"، هاجم قباني سلاماً آخر هو "سلام الجبناء"، كما وصفه، إبان توقيع معاهدة أوسلو بين الفلسطينيين والإسرائيليين. لم تكن أقل حظاً في درجة مرارتها واستعارة كل التعبيرات الممكنة في حقيبته الشعرية، إذ "سقط آخر جدران الحياء.. وفرحنا ورقصنا وتباركنا بتوقيع سلام الجبناء"، و"سقطت..للمرة الخمسين عذريتنا.. دون أن نهتز أو نصرخ.. أو يرعبنا مرأى الدماء.. ودخلنا في زمان الهرولة.. ووقفنا بالطوابير كأغنام أمام المقصلة".
وهاجمه بسببها الأديب المصري نجيب محفوظ، فرد عليه نزار في جريدة الحياة يدعوه أن "يبقى الكاتب الأول للقصة العربية ويترك نقد الشعر". قبل ذلك، سقط ضحية عرس الدم في لبنان، فقتلت زوجته بلقيس، إثر تفجير السفارة العراقية ببيروت، وكتب لها قصيدة موجعة خلدت اسمها، دان فيها النظام العربي المتسبب في اغتيالها:
سأقول في التحقيق: إن اللص أصبح يرتدي ثوب المقاتل وأقول في التحقيق: إن القائد الموهوب أصبح كالمقاول وأقول: إن عفافنا ... وتقوانا قذارة وأقول: إن نضالنا كذب وإن لا فرق ما بين السياسة و.....
شعر سياسي غير تشاؤمي لم يتغيّر هذا الموقف الشعري النقدي لنزار إلا في حالات نادرة، كما كتب في قصيدتي "أطفال الحجارة" و"صديقي المجنون سعد حلاوة"، إذ تخلى فيهما عن نظرته القاتمة والتشاؤمية حيال الواقع العربي الجامد والمتداعي، والتحم بالأمل في درجاته القصوى، وانفعل معه يلتمس حدوده وأطرافه. كان سعد حلاوة، المصري الذي حمل بندقيته واتجه إلى مجلس المدينة في أحد أقاليم القاهرة، واحتجز عشرات الرهائن احتجاجاً على زيارة السفير الإسرائيلي وافتتاح سفارة لهم، فقتلته أجهزة الأمن وأُعلن أنه مصاب بالجنون. قال عنه نزار في قصيدة حملت اسمه وجمعت بين الخطاب النثري، تتخللها مقتطفات شعرية: "هو أول مجنون عربي لم يحتمل رأسه رؤية السفير الإسرائيلي يركب عربة تجرها الخيول إلى قصر عابدين في القاهرة، ويقدم أوراق اعتماده إلى رئيس جمهورية مصر. فأخد مدفعاً رشاشاً واتجه إلى قاعة المجلس البلدي في قرية أجهور في محافظة القليوبية واحتجز سبع رهائن مطالباً من خلال مكبر الصوت الذي حمله معه، بطرد السفير الإسرائيلي لقاء الإفراج عن رهائنه". هو كلام مصر الممنوعة من الكلام.. وصحافة مصر التي لا تصدر وكتاب مصر الذين لا يكتبون وطلاب مصر الذين لا يتظاهرون ودموع مصر الممنوعة من الانحدار وأحزانها الممنوعة من الانفجار واحتفل قباني بأطفال الانتفاضة الفلسطينية، ورأى في "أطفال الحجارة" السبيل الوحيد لاسترداد الوعي، وتلاشي الإحساس المغلق بالهزيمة. وتحدث عن تناقض بين جيلين وصف أحدهما بـ"جيل الخيانات والعمولات والنفايات والدعارة" في مقابل هؤلاء الذين "بهروا الدنيا وما في يدهم إلا الحجارة وأضاؤوا كالقناديل وجاؤوا كالبشارة قاوموا وانفجروا واستشهدوا وبقينا دبباً قطبية".