اليوم أقتطف هذه الكلمات المضيئة والتي صاغها رحمه الله في خلق جليل من أخلاق الإسلام ألا وهو الإخاء نردد كثيرا ألفاظا مشتقتة من الإخاء والأخوة، لكننا قليلا ما نجسد معناها، في زمن غُلّبت فيه المصالح الشخصية، وصار الإخوان الحقيقيون عملة نادرة، فمن أنعم الله عليه بإخوة في الدين، وكان فيهم بمنزلة العضو من الجسد الواحد إذا اشتكى تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ، فليلزم جماعتهم...
الإخاء
الأخوة هي روح الإيمان الحي، ولباب المشاعر الرقيقة التي يكنها المسلم لإخوانه، حتى إنه ليحيى بهم ويحيى لهم، فكأنهم أغصان انبثقت من دوحة واحدة، أو روح واحد حل في أجسام متعددة..
إن الأثرة الغالبة آفة الإنسان وغول فضائله، إذا سيطرت نزعتها على امريء محقت خيره ونمّت شره، وحصرته في نطاق ضيق خسيس لا يعرف فيه إلا شخصه، ولا يهتاج بالفرح أو الحزن إلا لما يمسه من خير وشر، أما الدنيا العريضة، والألوف المؤلفة من البشر، فهو لا يعرفهم إلا في حدود ما يصل إليه عن طريقهم ليحقق آماله أو يثير مخاوفه. وقد حارب الإسلام هذه الأثرة الظالمة بالأخوة العادلة، وأفهم الإنسان أن الحياة ليست له وحده، وأنها لا تصلح به وحده فليعلم أن هناك أناسا مثله، إن ذكر حقه عليهم ومصلحته عندهم فليذكر حقوقهم عليه، ومصالحهم عنده، وتذكر ذلك يخلع المرء من أثرته الصغيرة، ويحمله على الشعور بغيره حين يشعر بنفسه، فلا يتزيد ولا يفتات. من حق أخيك عليك ان تكره مضرته، وأن تبادر إلى دفعها، فإن مسه ما يتأذى به شاركته الألم، وأحسست معه بالحزن. أما أن تكون ميت العاطفة قليل الاكتراث، لأن المصيبة وقعت بعيدا عنك فالأمر لا يعنيك، فهذا تصرف لئيم، وهو مبتوت الصلة بمشاعر الأخوة الغامرة التي تمزج بين نفوس المسلمين، فتجعل الرجل يتأوه للألم ينزل بأخيه، مصداقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مثل المسلمين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى" رواه البخاري والتألم الحق هو الذي يدفعك دفعا إلى كشف ضوائق إخوانك، فلا تهدأ حتى تزول غمتها وتدبر ظلمتها، فإذا نجحت في ذلك استنار وجهك واستراح ضميرك. من علائم الأخوة الكريمة أن تحب النفع لأخيك، وأن تهش لوصوله إليك كما تبتهج بالنفع يصل إليك أنت، فإذا اجتهدت في تحقيق هذا النفع فقد تقربت إلى الله بأزكى الطاعات وأجزلها مثوبة... إن أعباء الدنيا جسام، والمتاعب تنزل بالناس كما يهطل المطرفيغمر الخصب والجدب، والانسان وحده أضعف من أن يقف طويلا تجاه هذه الشدائد، ولئن وقف إنه لباذل من الجهد ما كان في غنى عنه لو أن إخوانه هرعوا لنجدته وظاهروه في إنجاح قصده، وقد قيل "المرء قليل بنفسه كثير بإخوانه" ومن ثم كانت الأخوة الخالصة نعمة مضاعفة، لا نعمة التجانس الروحي فحسب، بل نعمة التعاون المادي كذلك. وإخوة الدين تفرض التناصر بين المسلمين، لا تناصر العصبيات العمياء، بل تناصر المؤمنين المصلحين لإحقاق الحق وإبطال الباطل، وردع المعتدي وإجارة المهضوم، فلا يجوز ترك مسلم يكافح وحده في معترك، بل لا بد من الوقوف إلى جانبه على أي حال.. فإذا رأيت إساءة نزلت بأخيك، أو مهانة وقعت عليه، فأره من نفسك الاستعداد لمظاهرته، والسير معه حتى ينال بك الحق ويرد الظلم. إن المجتمع المتحاب بروح الله الملتقي على شعائر الإسلام، يقوم إخاء العقيدة مقام إخاء النسب، وربما ربت رابطة الإيمان على رابطة الدم. والحق ان أواصر الأخوة في الله هي التي جمعت أبناء الإسلام أول مرة، وأقامت دولته، ورفعت رايته، وعليها اعتمد رسول الله في تأسيس أمة صابرت هجمات الوثنية الحاقدة وسائر الخصوم المتربصين، ثم خرجت بعد صراع طويل وهي رفيعة العماد وطيدة الأركان، على حين ذاب أعداؤها وهلكوا... إن الأخوة في الإسلام تعني الإخلاص له، والسير على سبيله والعمل بأحكامه، وتغليب روحه على الصلات العامة والخاصة، واستفتاءه فيما يعرض من مشكلات، وغض الطرف عما عدا ذلك من صيحات ودعوات..