02.06.18 12:13 | الكرم بين الجاهلية والإسلام 2018رقم المشاركة : ( 1 ) |
عضو vip
إحصائيةالعضو | عالمى الخاص | | العمر : 33 | عدد المساهمات : 3444 | نقاط : 110222 |
|
| موضوع: الكرم بين الجاهلية والإسلام 2018 الكرم بين الجاهلية والإسلام 2018بسم الله الرحمن الرحيم الكرم من الأخلاق العريقة التي ألفها منذ الأزل أصحاب النفوس العظيمة، فأكبدوها في تعاملاتهم ومدحوا بها ساداتهم، وجعلوها دليل الرفعة والفخار، وغاية المجد لما فيها من الإيثار وعلو الهمم والأقدار، وكانت عندهم نقيض اللؤم والشنار، وفي فقدها كل مذمة وعار، فالكرم عادة السادات وشيمة الأحرار، وعادة السادات سادات العادات، وشيمة الأحرار أحرار الشيم. قال أحد الحكماء: أصل المحاسن كلها «الكرم» وأصل الكرم نزاهة النفس عن الحرام، وسخاؤها بما تملك على الخاص والعام، وجميع خصال الخير من فروعه. ولقد كانت الشجاعة والكرم من أبرز صفات المجتمع العربي الجاهلي، وظهر منهم في كل عصر ومصر أقطاب اشتهرت بالكرم، وروى عنهم مواقف عظيمة في الجود والسخاء، وكان من أبرزهم وأشهرهم (حاتم الطائي) الذي كان مضرب المثل فيهم بالكرم. ومما يؤثر عنه في ذلك ما ذكره التنوخي في المستجاد قال: إن رجلاً سأل حاتماً الطائي، فقال: يا حاتم، هل غلبك أحد في الكرم؟ قال: نعم، غلام يتيم، وذلك أنى نزلت بفنائه، وكان له عشرة أرؤس من الغنم، فعمد إلى رأس فذبحه وأصلح لحمه وقدمه إلى، وكان فيما قدم الدماغ، فقلت: طيب والله، فخرج من بين يدي، وجعل يذبح رأساً بعد رأس، ويقدم الدماغ، وأنا لا أعلم، فلما رجعت لأرحل نظرت حول بيته دماً عظيماً، فإذا هو قد ذبح الغنم بأسرها، فقلت له: لم فعلت ذلك؟ قال: يا سبحان الله، تستطيب شيئاً أملكه وأبخل عليك به، إن ذلك لسبه على العرب قبيحة، فقيل: يا حاتم، فبماذا عوضته؟ قال: بثلثمائة ناقة حمراء، وبخمسمائة رأس من الغنم، فقيل: أنت أكرم منه، قال: هيهات، بل هو والله أكرم، لأنه جاد بكل ما ملك، وأنا جدت بقليل من كثير. ومن الأجواد المشاهير في الجاهلية أيضاً (عبد الله بن جدعان) وكانت له جفنة يأكل منها الراكب على بعيره، ووقع فيها صغير فغرق، وذكر ابن قتيبة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ( لقد كنت أستظل بظل جفنة عبد الله بن جدعان صكة عمَىِّ) أي وقت الظهيرة. وذكروا أنه كان يطعم التمر والسويق ويسقى اللبن حتى سمع قول أميه بن أبى الصلت ولقد رأيت الفاعلين وفعلهم --- فرأيت أكرمهم بني الديان البر يلبك بالشهاد طعامهم --- لاما يعللنا بنو جدعان فأرسل ابن جدعان إلى الشام ألفي بعير تحمل البر والشهد والسمن، وجعل منادياً ينادى كل ليله على ظهر الكعبة: أن هلموا إلى جفنه ابن جدعان، فقال أميه في ذلك له داع بمكة مشمعل --- وآخر فوق كعبتها ينادى إلى روح من الشيزى ملاء --- لباب البر يلبك بالشهاد ولقد أحب العرب الكرم، واتخذوا له رموزاً وإشارات، فكانت تسمى الكلب داعي الضمير ومتمم النعم ومشيد الذكر لما يجلب من الأضياف بنباحه، وكانوا إذا اشتد البرد وهبت الرياح لم تشب النيران فرقوا الكلاب حوالي الحي وربطوها إلى العتمة لتستوحش فتنبح فتهدى الضلال وتأتى الأضياف على نباحها. ولقد كان الكرم العربي له عدة دوافع وأسباب نستطيع أن نوجزها في النقاط الآتية: أولاً: طبيعة الحياة الجغرافية: فلقد كانت البيئة العربية صحراء قاحلة، وكان سكانها من البدو في ترحال مستمر، فراراً من الجدب وبحثاً عن موارد المياه والكلأ. تلك البيئة جعلت العربي يدرك قيمة قرى الضيف وإعانة المحتاج ونصرة المظلوم وغيرها من القيم النبيلة، فكان يتشبث بهذه القيم حتى تعم وتنتشر ويعود إليه في النهاية خيرها ويشمله أثرها. ثانياً: طبيعة الحياة الاجتماعية: حيث انتشرت في البيئة العربية صفة حب الفخر والتباهي بخصال الكرم والسخاء، وفعل الآباء والأجداد، فأحب العربي أن يرتبط ذكره بما أحبه الناس من تلك الخلال، وكان الكرم أكثرها تأثيراً في النفوس. كما كان للحرب والنزاعات المستمرة بين القبائل دوراً في انتشار الكرم وحرص العرب عليه، حيث كان من آثار الحروب انتشار الفقر والبؤس في البلاد، فقل الغذاء وعز الطعام، فأحسوا بالجوع ينبش أنيابه بين أحشائهم، ويكاد يفتك بهم، وبخاصة إذا كانوا مسافرين أو عابري سبيل، فقدروا معنى الإنسانية الحقيقية، بتقديم ما يحفظ على الإنسان حياته أو يسد رمقه أو يروى غلته، ولذلك عظموا الكرم وإطعام الطعام، ووصفوا بالكرم عظماء القوم، وكان الكرم في مقدمه الفضائل التي يحب العربي أن يتحلى بها. وخلاصة القول أن الكرم، وإن شاع في المجتمع العربي القديم قبيل الإسلام، إلا أنه ارتبط بمنافع دنيوية وغايات نفعيه ومطامع ومكاسب مادية، ليس الدين أو التدين واحداً منها، لكن مع بزوغ شمس الإسلام احتلت القيم الإنسانية مكانة هامة في نظامه وهيكله، واختلف الأمر بالنسبة للمسلم، فلقد تعلق برب رحيم يرضيه مكارم الأخلاق، ويغضبه كل دنيئة، واتضحت رسالة الإنسان الحقيقية على الأرض - ألا وهى عبادة رب العالمين - ثم حساب ثم إلى جنه أو إلى نار، وكانت هذه القيم الإنسانية أحد الأركان الأساسية التي بها تقوم بها العبادة، والتي بها ينجو المسلم من نار تلظى، إلى جنه عرضها السماوات والأرض أعدها الله للمتقين. كان الكرم أحد هذه القيم النبيلة التي اهتم بها الإسلام، وأمر بها، فلقد عرف الله سبحانه وتعالى نفسه لعبادة بأن الكرم اسم من أسمائه تعالى (الكريم)، وصفه من صفاته عز وجل، لأنه هو الذي انفرد بالملك والغنى، وتوحد بالعظمة والثناء والسنا، واختص بالجاه والسلطان، فهو إذا عصى غفر، وإذا اطلع أمهل وستر، وإذا وعد وفي، وإذا أوعد عفا، لا يضيع من لجأ إليه، ولا يثلم من توكل عليه، يداه مبسوطتان بالخيرات، وله خزائن الأرض والسماوات، لا ينازع في قسمة رزقه، ولا يراجع في تدبير خلقه، فهو الكريم بالإطلاق، وكما أنه الكريم نادى عبادة بحب الكرم، وبذل المال رضاء وجه وابتغاء مرضاته، ونهاهم عن الشح والبخل. قال تعالى: - {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنه عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين}[آل عمران:133-134] - {إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية يرجون تجارة لن تبور}[فاطر:67] - {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم} [آل عمران:92] - {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبه أنبتت سبع سنابل في كل سنبله مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم}[البقرة:261] - {وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنت لا تظلمون}[البقرة: 272] - {فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى}[الليل:5-10] كما تعددت الأحاديث النبوية لهذه الأمة تدعوا المسلمين للبذل والسخاء وتبين لهم أنه طريق من طرق النجاة. - فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ( إن الله تعالى جواد يجب الجود ويحب معالي الأخلاق ويكره سفسافها ) [الترمذي] - وعن أبى هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ( ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أعط منفقاً خلفا ويقول الآخر اللهم أعط ممسكاً تلفاً ) [البخاري] - وعن أبى ذر -رضي الله عنه- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ( ما من مسلم ينفق من كل مال له زوجين في سبيل الله إلا استقبلته حجبة الجنة كلهم يدعوه إلى ما عنده ) [أحمد] - وعن على -رضي الله عنه- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ( إن في الجنة غرفاً يرى بطونها من ظهورها وظهورها من بطونها ) فقال أعرابي: لمن هي يا رسول الله؟ قال: ( هي لمن طيب الكلام، وأطعم الطعام، وأفشى السلام، وصلى بالليل والناس نيام ) [الترمذي] - وعن أبى هريرة -رضي الله عنه- قال رجل للنبي -صلى الله عليه وسلم-: يا رسول الله، أي الصدقة أفضل؟ قال: ( أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم، قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان ) [مسلم] - ( لا يجتمع شح وإيمان في قلب عبد أبداً ) [صحيح الجامع: 7616] - ( شر ما في رجل شح هالع وجبن خالع ) [أبو داود] وفي حديث آخر: ( اتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم ) [مسلم] كما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعظم قدوة عملية للمسلمين في هذا الشأن فعن جوده وكرمه حدث ولا حرج: فعن جابر -رضي الله عنه- قال: ما سئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن شيء قط، فقال: لا. [رواه البخاري في الأدب] وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس وأجود الناس وأشجع الناس. [رواه البخاري] وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أجود الناس، وأجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه كل ليله في رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجود من الريح المرسلة. [البخاري] وأتاه -رضي الله عنه- رجلا فسأله، فأعطاه غنماً سدت ما بين جبلين، فرجع إلى قومه، وقال: أسلموا، فإن محمداً يعطى عطاء من لا يخشى الفقر. كما أن منهج الإسلام بروعته أضاف للكرم آداب وحدود وضوابط، زادت طهارته طهارة ورفعته رفعه وبريقه بريقاً، نذكر من أهمها. 1- الإخلاص: وهو أداء العمل ابتغاء رضا الله وحدة، وليس لأي مأرب آخر، من مدح مادح أو تحصيل منفعة دنيوية، ولقد شرطه الله شرطاً أساسياً لقبول العمل الصالح، قال تعالى: {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً} [الكهف:110] وحسبك بعمل خالطه الإخلاص، ولذلك كان كرم الأجواد من أهل الجاهلية ليس له وزن ولا قيمة في الإسلام، لأنه لغير ابتغاء وجه الله تعالى، بل كان دافعه منافع دنيوية وغايات نفعيه ومطامع ومكاسب مادية كما أشرنا من قبل. ولقد ثبت في صحيح مسلم أن عائشة -رضي الله عنها- قالت: يا رسول الله، إن ابن جدعان كان يطعم الطعام، ويقرى الضيف، فهل ينفعه ذلك يوم القيامة؟ فقال: (لا، إنه لم يقل يوما: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين) ولما ذكر ابن كثير ترجمه (حاتم الطائي) في البداية والنهاية، قال موضحاً موقف الإسلام من كرمه: كان جواداً ممدوحاً في الجاهلية، وكذلك كان ابنه في الإسلام، وكانت لحاتم مآثر، وأمور عجيبة، وأخبار مستغربه في كرمه يطول ذكرها، ولكن لم يكن يقصد بها وجه الله والدار الآخرة، وإنما كان قصده السمعه والذكر. إن المؤمن إذا جاد فإن الإسلام علمه أن يجود لله، وفي ذلك يقول الشاعر ليس يعطيك للرجاء أو الخوف --- ولكن يلذ طعم العطاء 2- الإنفاق من طيب المال: قال تعالى: {يأيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غنى حميد}[البقرة267] وعن أبى هريرة -رضي الله عنه- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، وإن الله يتقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبه كما يربى أحدكم فلوه، حتى تكون مثل الجبل) [البخاري] وعن أبى هريرة -رضي الله عنه- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: {يأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً...} وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون} ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء، يا رب يا رب، ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذى بالحرام، فأنى يستجاب لذلك» [مسلم] 3- اجتناب المن والأذى فالمن بالعطاء والأذى بعدة ليس من صفات المخلصين، بل هو إلى الرياء والنفاق أقرب، قال تعالى: {الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا مناً ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غنى حليم} [البقرة:262-263] وعن أبي ذر -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «ثلاثة لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم» قلت من هم يا رسول الله قد خابوا وخسروا؟ فأعادها ثلاثاً. قلت: من هم خابوا وخسروا؟ قال: «المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب أو الفاجر» [رواه مسلم] 4- طلاقه الوجه وطيب اللقاء والبشر فهذا يملأ نفس المعطى رحمة، ويملأ نفس المتلقي بشراً وأمناً، وقد جاء في الحديث الصحيح: «تبسمك في وجه أخيك صدقه» [رواه الترمذي] فإننا لن نسع الناس بأموالنا، ولكن نسعهم بحسن الخلق. لقد علم الإسلام أبناءه فضيلة الجود والسخاء فجمعوا المال وبذلوه ابتغاء رضا الله تعالى، وكانت الدنيا في أيديهم لا في قلوبهم، ولسان حالهم في ذلك يقول: «المال وسيله وليس غاية». روى عن سعيد بن المسيب إمام التابعين أنه كان يجعل على ظهره إهاب الشاه، وكان له مال يتجر فيه، ويقول: اللهم إنك تعلم أنى لم أمسكه بخلاً ولا حرصاً عليه ولا محبه للدنيا ونيل شهواتها، وإنما أريد أن أصون به وجهي عن بني مروان حتى ألقى الله فيحكم في وفيهم، وأصل منه رحمي، وأؤدي منه الحقوق التي فيه، وأعود منه على الأرملة والفقير والمسكين واليتيم والجار. وعن عمرو بن دينار قال: ما رأيت أحد أنص للحديث من الزهري، ولا أهون من الدينار والدرهم عنده، وما الدرهم والدنانير عند الزهري إلا بمنزله البعر. وكان طلق بن حبيب العنزي لا يخرج إلى صلاة إلا ومعه شيء يتصدق به، وإن لم يجد إلا بصل، ويقول: قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقه} [المجادلة:12] فتقديم الصدقة بين يدي مناجاة الله أعظم وأعظم. امتزجت هذه المبادئ السامية بقلوب المسلمين، فصار منهم في الجود والكرم والسخاء قمم يتصاغر أمامها كرم حاتم الطائي وعبد الله بن جدعان .. وأمثالهم. وكيف لا وقد كان كرم المؤمنين لله تعالى وحده، فرفع الله به ذكرهم، وأعلى شأنهم. ونحن نذكر طرفاً من جودهم نشحذ به الهمم الراكدة، ونتذكر مجد أبناء الإسلام. - كان عبد الله بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- شديد السخاء، يقال أنه ما مات حتى أعتق ألف رقبة، وربما تصدق في المجلس الواحد بثلاثين ألف، وكانت تمضى عليه الأيام الكثيرة والشهر لا يذوق فيه لحما إلا وعلى يديه يتيم، وبعث إليه معاوية -رضي الله عنه- بمائه ألف لما أراد أن يبايع ليزيد فما حال عليه الحول وعنده منها شيء. - دخل عبيد الله بن أبى بكرة على الحجاج مرة وفي يده خاتم، فقال له الحجاج: كم ختمت بخاتمك هذا؟ قال: على أربعين ألف ألف دينار. قال: ففيم أنفقتها؟ قال: في اصطناع المعروف، ورد الملهوف، والمكافأة بالصناع، وتزويج العقائل. وقيل إن عبيد الله عطش يوما، فأخرجت له امرأة كوز ماء بارد، فأعطاها ثلاثين ألف. وقيل إنه أهدى إليه وصيف ووصيفه وهو جالس بين أصحابه، فقال لبعض أصحابه: خذهما لك، ثم فكر وقال: إن إيثار بعض الجلساء على بعض لشح قبيح ودناءة رديئة، ثم قال: يا غلام، ادفع إلى كل واحد من جلسائي وصيفاً ووصيفة، فأحصى ذلك فكانوا ثمانين وصيفاً ووصيفة. - وكان عبد الله بن جعفر من أسخا الناس، يعطى الجزيل الكثير ويستقله، وقد تصدق مرة بألفي ألف، وأعطى مرة رجلاً ستين ألفا، ومرة أعطى رجلاً أربعة آلاف دينار، وقيل إن رجلاً جلب مرة سكراً إلى المدينة فكسد عليه فلم يشتره أحد، فأمر ابن جعفر قيمة أن يشتريه وأن يهديه للناس. - رأى أسماء بن خارجه الفزاري يوماً شاباً على باب داره جالساً، فسأله عن قعوده على بابه، فقال: حاجة لا أستطيع ذكرها. فألح عليه، فقال: جارية رأيتها دخلت هذه الدار لم أر أحسن منها، وقد خطفت قلبي معها. فأخذ بيده وأدخله داره وعرض عليه كل جاريه عنده حتى مرت تلك الجارية، فقال: هذه. فقال له: اخرج فاجلس على الباب مكانك، فخرج الشاب فجلس مكانة ثم خرج إليه بعد ساعة والجارية معه قد ألبسها أنواع الحلي وقال له: ما منعني أن أدفعها إليك وأنت داخل الدار إلا أن الجارية كانت لأختي، وكانت ضنينة بها، فاشتريتها لك منها بثلاثة آلاف، وألبستها هذا الحلي، فهي لك بما عليها، فأخذها الشاب وانصرف. - وكان ناس بالمدينة يعيشون لا يدرون من أين يعيشون ومن يعطيهم، فلما مات على بن الحسين [زين العابدين] فقدوا ذلك، فعرفوا أنه هو الذي كان يأتيهم في الليل بما يأتيهم به، ولما مات وجدوا في ظهره وأكتافه أثر حمل الجراب إلى بيوت الأرامل والمساكين في الليل، وقيل إنه كان يعول مائه أهل بيت بالمدينة ولا يدرون بذلك حتى مات، ودخل على بن الحسين على محمد بن أسامة بن زيد يعوده فبكى ابن أسامة، فقال: ما يبكيك؟ قال: على دين. قال: وكم هو؟ قال: خمسة عشر ألف دينار. فقال: هي على. - أصاب يزيد بن المهلب -قائد المسلمين- في أحد فتوحاته أموالاً كثيرة، فكان من جملتها تاج فيه جواهر نفيسة، فقال أتدرون أحداً يزهد في هذا؟ قالوا: لا نعلمه. فقال: والله إني لأعلم رجلاً لو عرض عليه هذا وأمثاله لزهد فيه. ثم دعا بمحمد بن واسع - وكان في الجيش مغازيا - فعرض عليه أخذ التاج. فقال: لا حاجة لي فيه. فقال: أقسمت عليك لتأخذنه. فأخذه وخرج به من عنده، فأمر يزيد رجلاً أن يتبعه فينظر ماذا يصنع بالتاج، فمر بسائل فطلب منه شيئاً فأعطاه التاج بكامله وانصرف، فبعث يزيد إلى ذلك السائل فأخذ منه التاج وعوضه عنه مالاً كثيراً. - قال الليث: كان الزهري أسخى ما رأيت، يعطى كل من جاء يسأله حتى إذا لم يبق عنده شيء استسلف، وكان يطعم الناس الثريد ويسقيهم العسل، وكان يستمر على شراب العسل كما يستمر أهل الشراب على شرابهم، ويقول اسقونا وحدثونا. وقضى عنه هشام مرة ثمانين ألف درهم، وعتب رجاء بن حيوه على الزهري في الإسراف، وكان يستدين، فقال: لا آمن أن يحبس هؤلاء القوم ما بأيديهم عنك، فتكون قد حملت على أمانيك. فوعده الزهري أن يقصر، فمر به بعد ذلك وقد وضع الطعام ونصب موائد العسل، فوقف به رجاء وقال: يا أبا بكر، ما هذا الذي فارقتنا عليه. فقال له الزهري: انزل فإن السخي لا تؤدبه التجارب. له سحائب جود في أنامله --- أمطارها الفضة البيضاء والذهب يقول في العسر إن أيسرت ثانية --- أقصرت عن بعض ما أعطى وما أهب حتى إذا عاد أيام اليسار له --- رأيت أمواله في الناس تنتهب |
| |