متى ظهرت النقود؟ وفي أي حضارة؟ وكيف تطوت النقود حتى صارت إلى ما هي عليه الآن ؟
أول ما يحب دارس الاقتصاد معرفته هو تاريخ النقود ومسيرة تطورها، والحضارات التي كانت السباقة إلى استعمالها، والمراحل التي مرت بها حتى وصلت إلى ما هي عليه في العصر الراهن، فمتى ظهرت النقود؟ وفي أي حضارة؟ وكيف تطوت النقود حتى صارت إلى ما هي عليه الآن؟
كل شيء في هاته الحياة له تاريخ يروى، وماض مليء بالأحداث والحكايات، حتى الجبال الراسيات، والأنهر الجاريات، لها ماض وتاريخ، تلك صيرورة الزمن وتقلب الليل والنهار، لا بد لها من علامة، وعلاماتها هي التاريخ وأحداثه. وكذلك الأمر بالنسبة للنقود والعملات، هي الأخرى لها تاريخها وماضيها، لها ذاكرة وأحداث، صحيح أنها ليس ذاكرة محفورة في صحائف النقود المعدنية أو على وجه الأوراق النقدية، ولكنها موجودة، حفظتها كتب التاريخ وحملتها قرائح المؤرخين، ومع ذلك فإن جانبا كبيرا من ذلك التاريخ لا زال غامضا حتى الآن، وخاصة فيما يتعلق بنشأة النقود وظهور العملات، وعلى الرغم من ذلك فإن علماء التاريخ والإناسة حاولوا ملء تلك الفراغات والفجوات بما جادت به أفئدتهم من تخمينات واستنتاجات، ومن المهم أن نعلم بأن جزءا كبيرا من التاريخ تلك هي طبيعته، وأنه ليس إلا تخمينات وتخرصات لفقها بعض المؤرخين لإكمال فقرات التاريخ، وليخرجوه في قالب قصصي جذاب. ما قبل النقود:
يحلوا لعلماء التاريخ والإنساة أن يرسموا لنا قصة طريفة عن البدايات الأولى للتعاملات البشرية، ومجمل تلك القصة يمكن ذكره كما يلي: في البدء كان الإنسان يعيش على الصيد، وكل من في العشيرة يشارك في عملية الصيد وجمع الطرائد، لينال بالمقابل حصته من الصيد وحظه من الغنيمة، ثم اكتشف الإنسان الزراعة وتدجين الحيوانات، ولم يعد الصيد هو الوسيلة الأولى لضمان لقمة العيش، بل أصبح تثوير (حرث) الأرض من أجل المحاصل الزراعية وسيلة أخرى فعالة ومفيدة، وأغنت عملية التدجين عن مشاق الصيد ومخاطره، وإن لم تقض عليه بشكل نهائي، ومع ظهور الزراعة والتدجين بدأت العشائر تشهد فائضا في الإنتاج يربو على متطلباتها ويفوق احتياجاتها، وظهر بإزاء ذلك تنوع في المواد الزراعية المنتجة، والأنواع الحيوانية المدجنة. وبظهور الزراعة وتدجين المواشي ظهرت الحرف والمهن، وصارت المجتمعات تشهد نوعا من التخصص في المهن والحرف المزاولة، ومن ثم بدأء الناس يتبادلون فائض إنتاجهم؛ بحيث يعطي المزارع لمربي الأبقار – مثلا – نصيبا مما يزيد عن حاجته وحاجة عائلته من الحبوب، مقابل بقرة أو بقرتين مما فضل عن حاجة مربي الأبقار، ويأخذ النجار والحداد بعض الأغنام في مقابل خدماته التي يقدمها. ومع مرور الوقت خلق هذا الوضع إشكالا جديدا، وهو أن بعض أصحاب المهن أو المزارعين أو مربي المواشي، لم يكونوا في حاجة لما ينتجه الآخرون، فقد يكون المزاعر ذا حرفة، وله بعض المواشي التي يربيها، وتسد حاجته من اللحم والألبان والكساء، وبالتالي فإنه ليس في حاجة إلى المواشي التي سيعطيها له فلاح آخر مقابل قدر من الحبوب التي هو في حاجة إليها، وهنا كان لا بد من وجود حل لهاته المعضلة. الأيام الأولى من حياة النقود: لقد رأينا كيف انتقل الإنسان من مجرد صائد للحيونات والطرائد، يسعى وراءها في السهول والبراري كحيوان مفترس، إلى إنسان مستقر نسبيا، له أرض يحرثها، وحظيرة من المواشي يتعهدها بالحماية والرعاية، وأنه حقق بذلك فائضا في الإنتاج، سمح له بتبادل السلع مع أفراد العشيرة الذين يتوفرون على سلع أو خدمات أخرى هو في حاجة إليها، ولكنه وفي بعض الحالات كان يجد نفسه محتاجا إلى سلعة أو خدمة ما، ولكن الأشخاص الذي يمتلكون تلك السلع أو الخدمات التي هو في حاجة إليها، ليس لهم أي رغبة فيما يعرضه عليهم هو من سلع أو خدمات، فكان لا بد حينها من وجود بديل يمكن استعماله في مقابل كل سلعة أو خدمة، فما هو يا ترى ذلك البديل؟ بابل ”مسقط رأس“ النقود:
نحن الآن في بابل، حوال ثلاثة آلاف (3000) سنة قبل الميلاد، الألواح الصلصالية التي نقشت عليها مقاطع من الحكم والقوانين باللغة المسمارية ستكون هي منبع الإلهام للنماذج الأولى من النقود؛ لم يعد الإنسان الآن في حاجة إلى أن يبادل سلعة أو خدمة بسلعة وخدمة أخرى، بل يكفيه أن يأخذ قطعة من الصلصال ويرسم عليها ختمه الخاص به، ثم يشتري به سلعة أو خدمة ذات قيمة محددة، وكأنها شيك أو صك، يكفل لحامله الحق في الحصول على أي سلعة أو خدمة تساوي أو تقارب القيمة التي حددت في تلك القطعة الصلصالية، ويرى بعض المؤرخين أن تلك القطع الصلصالية كان يرسم عليها رمز يشير إلى نوع السلعة التي يمكن تبادلها بواسطة تلك القطعة. ولكن الأمر لم يطل كثيرا، حيث أصبح من السهل أخذ قطعة من الصلصال ورسم أي رمز أو شكل عليها، ولم تكن تمثل بالنسبة لأصحابها ثروة أو شيئا ذا قيمة، وهنا كان لا بد من استعمل شيء نادر عوض الصلصال المتواجد بكثرة. مرحلة المعادن النفيسة والنقود المعدنية: في نهاية العصر الحجري، حوالي ألف (1000) سنة قبل الميلاد، بدأ الصينيون في استعمال البرونز والنحاس كلون من ألوان النقود، ثم تطورت الأمور أكثر وتم إقحام الذهب والفضة في صناعة النقود، وخاصة النقود التي تقدم قرابين للآلهة ولسدنة المعابد. إلا أن إشكالا آخر طرأ على هاته النقود الجديدة، حيث بدأ اللصوص وقطاع الطرق يغيرون على التجار من أجل نهب ما في حوزتهم من معادن نفيسة وقطع نقدية تشكل ثروة حقيقية، ومن ثم كان لا بد من إيجاد حل يقلل من هاته الهجمات، فظهر ما يسمى بالنقود الائتمانية، وهي عبارة عن ورقة/صك يشهد بامتلاك صاحبه قدرا من القطع النقدية، ويمكنه من خلال تسليم ذلك الصك للطرف الآخر الحصول على ما يشاء من السلع مقابل تلك القيمة المحددة في الصك.
قاعدة الذهب: ومن النقود الائتمانية هاته ظهرت الأوراق النقدية المستندة إلى قاعدة ذهبية، ولقد كانت بداياتها في أوروبا، وخاصة مع ظهور البنوك، ذلك أن أصحاب الثروات والقطع النقدية الذهبية داخلهم الخوف على ثرواتهم التي يكتنزونها في بيوتهم، وعشعشت الوساوس في صدورهم خشية أن يغير عليهم اللصوص ويجهزوا عليهم من أجل الحصول على تلك الثوات التي بحوزتهم، وهكذا جاءت فكرة البنوك، حيث ينشئ بعض أصحاب النفوذ والقوة مخازن لقطع الذهب محمية ومأمنة، يضع فيها الأثرياء ثرواتهم وحصصهم من الذهب، ثم بدأت تلك الأبناك في توسيع نشاطاتها، وتسليم صكوك من دون رصيد لمن ليس بحوزتهم قطع نقدية، على أنها ديون يجب سدادها في أجل محدد، وبدأت الأوراق النقدية حينها بالظهور والانتشار على نطاق واسع. وهنا تدخلت الدولة لتنظم عمل البنوك والمصارف، وأصبح إصدار النقود مهمة رسمية تضطلع بها الحكومة والبنك المركزي، أو تزاولها البنوك والمصارف الخاصة تحت إشراف الحكومة. ومع تطور الحضارة وتحسن أوضاع المعيشة، وارفتاع معدل النمو السكاني، لم يعد بالإمكان تغطية الأوراق النقدية بقاعدة شاملة من الذهب، لكون الذهب معدنا نفيسا، ولا يتواجد بالقدر الكافي لتغطية قيمة الأوراق النقدية تغطية كاملة، ومن هنا عمدت بعض الدول إلى اعتماد القاعدة الذهبية النسبية، فلم تعد ورقة المائة دولار – مثلا – تساوي ما يعادلها من الذهب، وهو عشر غرامات على سبيل المثال، بل خفضت قاعدتها الذهبية لتعادل خمسة غرامات فقط، مع حفاظها على قيمتها الإسمية، وهي مائة دولار. واستمرت القاعدة الذهبية في الانحسار إلى نهاية الحرب العالمية الثانية، واستمر بعدها بسنوات، إلى حدود عام 1971م، حيث أعلن الرئيس الأمريكي حينها ريتشارد نيكسون عن إلغاء القاعدة الذهبية إلغاء تاما، واعتبار الأوراق النقدية قيمة في ذاتها من غير احتياجها إلى غطاء ذهبي، وهي السياسة التي تبنتها تقريبا جميع الدول تباعا. النقود الرقمية:
مع اختراع الحاسوب وانتشار شبكة الإنترنت، وظهور الاقتصاد الإلكتروني، أصبح الإنسان المعاصر في حاجة إلى وسيلة جديدة للدفع والاستلام تناسب هاته الطفرة التكنولوجية الحديثة، وهكذا بدأ الحديث عن عملات رقمية غير فيزيائية مع نهاية القرن الماضي، ولكنها لم تخرج لحيز الوجود إلى في عام 2009، حيث أطلق شخص يدعا ساتوشي، بروتوكولا رقميا يعتمد مبدأ الند للند (peer to peer) يمكن استعماله وسيلة للدعف وتبادل السلع والخدمات عبر الأنترنت، وتم تسمية أولى تطبيقات ذلك البروتوكول ب bitcoin، ولذا كانت بدايات هاته العملة متدبدبة، ولم تشهد إقبالا ملحوظا، ولكنها ومع مرور الوقت صارت واحدة من أغلى العملات، حيث تقدر قيمة البتكوين الواحد في هذا التاريخ (2017/11/21) بما يفوق ثمانية آلاف دولار، وتم اعمادها من قبل دول كثير وشركات كبرى، وأطلقت عدة جهات وشركات تطبيقات مختلفة وأنواعا متعددة من النقود الرقمية، وأصبح بيع العملات الرقمية تجارة رابحة، وسوقا رائجة. ترى ما الذي يخبئه المستقبل للنقود؟ وهل سنعيش في يوم من الأيام ذلك الواقع الذي صوره أحد الكتاب المصريين في رواية له، حيث يصير منسوب الذكاء لدى كل فرد هو رصيده من الثروة، به يبيع وبه يشتري؟!