لم تكن الصين بعيدة عن عيون العرب والمسلمين … بل باتت قريبة جداً من أن تصبح ولاية إسلامية كبرى لولا أن تدخلت الأقدار ومنعت تقدم الجيوش الإسلامية لتقف عند أول مدنها … فما الذي حدث حتى يتوقف هذا الزحف الكبير …
قتيبة بن مسلم المحارب العظيم وفاتح الصين لعلك قرأت عن تاريخ هذا البطل المغوار الأسد الجسور المجاهد الذي لا يكل ولا يمل ولا يعرف سبيلاً للراحة أو النوم، إنه قتيبة مسلم … فقد كانت راحته في قيادة الجيوش نحو المدن وكانت سلوته في أن يحطم أصنام الشرك والمشركين وإن يُعلي رايتي الحق الدين، حيث كان لا يحيد عن طريقه مهما واجه من صعاب وتحديات … فهو مقاتل صلد عنيد لا يهاب الصروع سبقته سيرته أينما حل أو ارتحل فأرهب أعداءه وهم جاثمون على عروشهم يتنعمون في بلاط ملكهم … إنه أبو حفص قتيبة بن مسلم الباهلي .
لقصة قتيبة بن مسلم العظة والعبرة والقدوة يعلوها شعار ”الإسلام فداه أرواحنا“، فقبيلة باهلة لم تكن ذات شأن أو عظم في الجاهلية، حيث ورد في الحديث عندما سأل الأشعث بن قيس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أتتكافأ دماؤنا؟ ــ ويقصد القصاص ــ قال: ”نعم، لو قتلت رجلًا من باهلة لقتلتك“، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يهزأ أو يسخر من باهلة بهذا الحديث ولم يقصد لهم الإساءة فحاشاه هذا، ولكنه يضرب لنا المثل بأقرب المعاني، فالإسلام جاء فألغى كل هذه العصبيات القبلية التي كانت فخراً بين العرب في الجاهلية. بلغت عظمة الفتوحات في هذا العصر الذهبي ”عصر الدولة الأموية“ مبلغاً رفيعاً لم يبلغه أحداً من اللاحقين، حيث ترامت أطراف المملكة من أقاصي الشرق إلي أقاصي الغرب في وقت وجيز، فبينما كان طارق بن زياد يواجه القوط في وادي لكة فاتحاً بلاد الأندلس ،كان المحارب العظيم قتيبة بن مسلم يدك المدن في تخوم الصين النائية ويهدد عرش امبراطوريتها غير عابئ بمدى قوة عدة وعتاد جيوشها الجرارة. ولد قتيبة بن مسلم سنة 48 هـ بمدينة البصرة، والده مسلم بن عمرو قاتل إلي جوار أمير المؤمنين ”عبدالله بن الزبير“ وقاتلا سوياً ضد الخليفة عبدالملك بن مروان، حتى استشهد مسلم بن عمرو الباهلي عام 72 هـ، أُشرب قتيبة في نفسه حب الجهاد والخروج في سبيل الله لا تثنيه دنيا أو جاه، وكان فقيهاً حافظاً للقرآن وهبه الله بصيرة في القلب ورجاحة في العقل وقوة في العزم، فأصبح قتيبة بن مسلم محارب مثابر له نظرة وبُعد نظر، وأبدى شجاعة غير عادية في معاركه ضد ممالك الفرس ومن والاهم، كانت تلك الصفات كافية للفت نظر قائده ”المهلب بن أبي صفرة“، حيث كان على دراية وخبرة ببواطن الرجال فرأى في مكنون هذا الشاب نبات حسن لقائد عظيم فرشحه لوالي العراق آنذاك ”الحجاج بن يوسف الثقفي“ الذي اختبره في عدة معارك أبلى فيها قتيبة بن مسلم بلاءً حسناً، فخاطب الخليفة ”عبدالملك بن مروان“ فعينه والياً على الري عام 82 هـ، ثم ولاه الإمارة على خرسان خلفاً لقائده “ المهلب بن أبي صفرة“ وذلك عام 86 هـ. بعدها انطلق القائد العظيم قتيبة بن مسلم نحو الشرق لا يفله خوف ولا يوقفه زحف ولا يعيقه جيش، فتابع الفتوحات المتتالية المدينة تلو الأخرى، حيث اتبع سياسة الضربات المتلاحقة للعدو حتى لا يعطي فرصة للأعداء لالتقاط الأنفاس أو إعادة ترتيب الصفوف. اتبع في فتوحاته أربع مراحل تعتمد في مجملها على عدم الانتقال للخطوة التالية إلا بعد تمكين المسلمين من الأراضي التي فتحوها، وبناء المساجد وتعيين والٍ مسلم عليها ومن ثم الانتقال للمرحلة التي تليها … وهكذا
فالمرحلة الأولى: كانت في عام 86 هـ قاد فيها ”قتيبة“ بحملته على ”طخارستان السفلى“ فاستعادها وثبت أقدام المسلمين بها . أما المرحلة الثانية: فكانت بين عامي 87 و 90 هـ قاد فيها حملته الكبرى على بُخارى وبدأ بأقرب مدينة له “ بيكند“ وحاصرها حصاراً شديداً حتى كاد يهلك أهلها، وكان لقتيبة عيون وجواسيس في كل مدينة يستقي أخبارها ويتحسس مدى قوة ورباط جيشها وكان جاسوسه في ”بيكند“ رجل يقال له ( تندر) أغراه كهنة المدينة بالذهب والمال في مقابل أن يصبح جاسوساً لديهم على قتيبة، وكان قتيبة وفياً في ولاءه للحجاج بن يوسف الثقفي، وأثناء شد الخناق على هذه المدينة تقرب إليه (تندر) وأخبره بأن الخليفة عبدالملك بن مروان قد قُتل وتم عزل الحجاج ، لكن البطل الفذ قتيبة بن مسلم كان رجل ذو فراسة ويعلم خبايا النفوس، فأدرك هذا الفخ فقتل هذا الخائن، بعدما علم أهل ”بيكند“ بما حدث لصاحبهم أرسلوا له طالبين الصلح وأن يدخل مدينتهم فاتحاً وأن يعطوه الجزية، وقد حدث إلا أنه لم يكد يفعل ويغادر المدينة متجهاً صوب بُخارى حتى أنقلب أهلها على حامية المسلمين وقتلوهم ومثلوا بجثثهم، وما كاد أن يسمع بذلك قتيبة حتى عاد بجيشه غاضباً بعد أن طلب مدداً من قبل الخليفة، وأقسم بأن يدك حصونها على أهليها، وبعد دخولها طلبوا منه الصلح والعهد مرة أخرى، إلا أن قتيبة رفض صلحهم وأمر بقتلهم جميعاً وسبي نساءهم وأطفالهم، ثم بعدها أتم فتح بخارى وما حولها من القرى والحصون، وكانت أهم مدن بلاد ما وراء النهر وأكثفها سكانًا وأمنعها حصونًا.
المرحلة الثالثة: استمر المحارب العظيم في الزحف بجيوشه بين عامي ( 92 و93 ) هجرية ليتمكن من نشر الإسلام وتثبيته في وادي نهر جيحون كله، وأتم فتح إقليم ”سجستان“ وإقليم خوارزم ”يوجد الآن بين دول إيران وباكستان وأفغانستان“، ووصلت فتوحاته إلى مدينة ”سمرقند“ في قلب آسيا وضمها إلى دولة الإسلام نهائيًا . المرحلة الرابعة : وامتدت بين عامي (94- 96 هجرية)، وفيها أتم ”قتيبة“ فتح حوض نهر سيحون بما فيه من مدن، ثم دخل أرض الصين وأوغل فيها ووصل مدينة ”كاشغر“ وجعلها قاعدة إسلامية، وكان هذا آخر ما وصلت إليه جيوش الإسلام في آسيا شرقًا. وعندما مَـنَّ الله على قتيبة بن مسلم وفتح فرغانة واستقر بها، انتقى أفضل عشرة رسل من رجاله بقيادة هبيرة بن مشمرج الكلابي وكان من أفصح القوم لساناً وأكثرهم وجاهة وبياناً وألمعهم ذكاء وإيماناً، أخبرهم بأن يحملوا رسالته إلي إمبراطور الصين بأنه قدم لبلاده وأقسم بأن يطأ أرضها ويختم ملوكها ويجبي خراجها. وبعد أن وصلوا إلي ملكه ورأوا عظيم قدره وسلطانه واستعرضوا قوتهم، ولما رأى ملك الصين قوة وحصافة الرسل طلب كبيرهم فأتاه هبيرة، فقال له: أصدقني القول يا هذا وإلا قطعت رأسك، فقال الملك: ما أحسن ما دبرتم دهركم، فانصرفوا إلى صاحبكم – يعني قتيبة – وقولوا له: ينصرف راجعاً عن بلادي، فإني قد عرفت حرصه وقلة أصحابه، وإلا بعثت إليكم من يهلككم عن آخركم، فقال له هبيرة: أتقول لقتيبة هذا ؟! فكيف يكون قليل الأصحاب وأول خيله في بلادك وآخرها في منابت الزيتون في بلاد الشام؟ وكيف يكون حريصاً من خلف الدنيا وهو قادراً عليها، وغزاك في بلادك؟ وأما تخويفك إيانا بالقتل فإننا نعلم أن لنا أجلاً إذا حضر فأكرمها عندنا القتل، فلسنا نكرهه ولا نخافه. فقال له الملك: فما الذي يرضي صاحبكم حتى أكف يده عني؟ فقال: قد أقسم أنه لا ينصرف حتى يطأ أرضك ويختم ملوكها ويجبي الجزية منها، فقال: أنا أبر يمينه وأخرجه منها، أرسل إليه بتراب من أرضي، وأربعة غلمان من أبناء الملوك، وأرسل إليه ذهباً كثيراً وحريراً وثياباً لا تقوم ولا يدرى قدرها أحد، ثم جرت لهم معه مفاوضات كثيرة، ثم اتفق في نهاية الأمر على أن يبعث صحافاً من ذهب متسعة فيها تراب من أرضه فيطأها قتيبة، وبعث بجماعة من أولاده وأولاد الملوك ليختم رقابهم ثم أكرمهم وردهم إلي أهلهم ، وبعث بمال وفير ليبر بيمين قتيبة.
وكان قتيبة يتحين الفرصة لغزو بلاد الصين لا يردعه عنها شيء، لولا أن وصله نبأ وفاة الخليفة ”الوليد بن عبدالملك“ وتولي أخيه “ سليمان بن عبدالملك“ عرش الخلافة، وكان بينه وبين “ سليمان“ عداوة سابقة بسبب مبايعة قتيبة للوليد على عزل أخيه سليمان من ولاية العهد، ولما سمع بذلك قتيبة أعلن العصيان والخروج على أمر الحاكم وأعد جيشه لقتال “ سليمان بن عبدالملك“ حتى حاصره رجال الخليفة وقاتلوه حتى قتل هو وبني أهله في عام 96 هجرية … وكانت هذه نهاية غادرة لمحارب عظيم طالما جثى الملوك العظام عند أقدامه وطلبوا منه العفو والأمان … إنه قتيبة بن مسلم فاتح المشرق وإسكندر العرب.