10.04.21 15:23 | صبر النفسرقم المشاركة : ( 1 ) |
عضو فعال
إحصائيةالعضو | | عدد المساهمات : 728 | نقاط : 44794 |
|
|
| موضوع: صبر النفس صبر النفسمن أقسام الصبر صبر النفس
أقسام الصبر:
"اعلم أن الصبر مقام من مقامات الدين، ومنزلٌ من منازل السالكين، وجميع مقامات الدين إنما تنتظم من ثلاثة أمور: معارف، وأحوال، وأعمال؛ فالمعارف هي الأصول، وهي تورث الأحوال، والأحوال تثمر الأعمال، فالمعارف كالأشجار، والأحوال كالأغصان، والأعمال كالثمار، وهذا مطَّرِد في جميع منازل السالكين إلى الله - تعالى - واسم الإيمان تارة يختص بالمعارف، وتارة يطلق على الكل، وكذلك الصبر لا يتم إلا بمعرفة سابقة وبحالة قائمة، فالصبر على التحقيق عبارة عنها، والعمل هو كالثمرة يصدر عنها، ولا يعرف هذا إلا بمعرفة كيفية الترتيب بين الملائكة والإنس والبهائم، فإن الصبر خاصية الإنس، ولا يُتصوَّر ذلك في البهائم والملائكة، أما في البهائم فلنقصانها، وأما في الملائكة فلكمالها.
وبيانه أن البهائم سلِّطت عليها الشهوات، وصارت مسخرة لها، فلا باعث لها على الحركة والسكون إلا الشهوة، وليس فيها قوة تصادم الشهوة، وتردُّها عن مقتضاها حتى يسمَّى ثباتُ تلك القوة في مقابلة مقتضى الشهوة صبرًا.
وأما الملائكة - عليهم السلام - فإنهم جردوا للشوق إلى حضرة الربوبية بدرجة القرب منها، ولم تسلط عليهم شهوة صارفة صادة عنها، حتى يحتاج إلى مصادمة ما يصرفها عن حضرة الجلال بجند آخر يغلب الصوارف.
وأما الإنسان، فإنه خُلق في ابتداء الصبا ناقصًا مثل البهيمة لم يخلق فيه إلا شهوة الغذاء الذي هو محتاج إليه، ثم تظهر فيه شهوة اللعب والزينة، ثم شهوة النكاح، على الترتيب، وليس له قوة الصبر ألبتة؛ إذ الصبرُ عبارة عن ثبات جندٍ في مقابلة جند آخر، قام القتال بينهما لتضاد مقتضياتهما ومطالبهما، وليس في الصبي إلا جند الهوى كما في البهائم، ولكن الله - تعالى - بفضله وسَعَة جوده أكرَمَ بني آدم ورفَع درجتهم عن درجة البهائم، فوكل به عند كمال شخصه بمقاربة البلوغ ملكين؛ أحدهما يهديه، والآخر يقويه، فتميز بمعونة الملكين عن البهائم؛ فلنُسَمِّ هذه الصفة التي بها فارق الإنسانُ البهائمَ في قمع الشهوات وقهرها باعثًا دينيًّا، ولنُسَمِّ مطالبة الشهوات بمقتضياتها باعثَ الهوى، وليفهم أن القتال قائمٌ بين باعث الدين وباعث الهوى، والحرب بينهما سجال، ومعركة هذا القتال قلب العبد، ومدد باعث الدين من الملائكة الناصرين لحزب الله - تعالى - ومدد باعث الشهوة من الشياطين الناصرين لأعداء الله - تعالى - فالصبر عبارة عن ثبات باعث الدين في مقابلة باعث الشهوة، فإن ثبت حتى قهره واستمر على مخالفة الشهوة، فقد نصر حزب الله، والتحق بالصابرين، وإن تخاذل وضعُف حتى غلبته الشهوة ولم يصبر في دفعها، التحق بأتباع الشياطين"[1].
ومن خلال حقيقة الصبر نجد أن الصبر ينقسم إلى قسمين، الأول: صبر النفس، والثاني: صبر البدن، وبالرغم من التقارب بينهما والارتباط ببعضهما، فلا ينفك الأول عن الثاني والثاني عن الأول، إلا أن هناك بعض الاختلافات يجب ذكرها.
الأول: صبر النفس:
لن ترضى بما قسمه الله - تعالى - لك، ولن تتحقَّق آمالك إلا إذا كانت نفسُك صابرة وقانعة بما في يدك، ولن تصلَ إلى أعلى الدرجات إلا إذا كانت النفس مؤمنةً بقضاء الله - تعالى - فلن يكونَ لديك عزيمة إلا إذا كانتْ نفسُك صابرة على الطاعات والابتلاءات، تصبر على منازل الدنيا، وترضى بقضاء الله - تعالى؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((أفضل الأعمال ما أكرهت عليه النفوس))، فالنفس غير الصابرة قلب بلا روح، عقل بلا تفكير، عين بلا إبصار، أذن بلا سمع.
عوِّد نفسك على الصبر؛ لأن النفس الصابرة لا تخضع لوساوس الشيطان، ولن تركن إلى دنيا فانية، فالنفس الصابرة قوة لا يستهان بها، ننتصر بها على الأعداء، وعلى رأسهم دولة بني صِهيون، فالنصر قريب إذا كانت النفس صابرة، هل تعلم - يا مسلم - أن النصر على الأعداء لن يأتي إلا إذا انتصرت نفسُك على شهوات الدنيا؟ ولن يأتي ذلك إلا إذا كانت نفسك صابرة راضية تحمد الله - تعالى - في السرَّاء والضرَّاء، فلا تتبع الهوى، حتى لا تندرج تحت أعوان الشيطان.
قال الإمام الغزالي عن هذا الضرب، وهو صبر النفس:
(هذا الضرب محمود، وهو الصبر النفسي عن مشتهيات الطبع ومقتضيات الهوى، ثم هذا الضرب إن كان صبرًا على شهوة البطن والفرْج سمِّي عفة، وإن كان على احتمال مكروه اختلفت أساميه عند الناس باختلاف المكروه الذي غلب عليه الصبر، فإن كان في مصيبة اقتصر على اسم الصبر، وتضاده حالة تسمى الجزع والهلع وهو إطلاق داعي الهوى؛ ليسترسل في رفع الصوت، وضرب الخدود، وشق الجيوب، وغيرها، وإن كان في احتمال الغِنَى سُمِّي: ضبط النفس، وتضاده حالة تسمى البطر، وإن كان في حرب ومقاتلة سمِّي: شجاعة ويضاده الجبن، وإن كان في كظم الغيظ والغضب سمِّي: حِلمًا، ويضاده التذمُّر، وإن كان في نائبةٍ من نوائب الزمان مضجرة سمِّي: سَعَة الصدر، ويضاده الضجر والتبرم وضيق الصدر، وإن كان في إخفاء كلامٍ سمِّي: كتمان السر، وسمي صاحبه: كتومًا، وإن كان عن فضول العيش سمي: زاهدًا، ويضاده الحرص، وإن كان صبرًا على قدر يسيرٍ من الحظوظ سمِّي: قناعة ويضاده الشَّرَه، فأكثر أخلاق الإيمان داخل في الصبر، وقد جمع الله - تعالى - أقسام ذلك وسمى الكل صبرًا، فقال - تعالى -: ﴿ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ ﴾؛ أي: المصيبة، ﴿ وَالضَّرَّاءِ ﴾؛ أي: الفقر، ﴿ وَحِينَ الْبَأْسِ ﴾؛ أي: المحاربة، ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 177]؛ فإذًا هذه أقسام الصبر باختلاف متعلقاتها، ومَن يأخذ المعاني من الأسامي يظن أن هذه الأحوال مختلفة في ذواتِها وحقائقها من حيث رأى الأسامي مختلفة، والذي يسلك الطريق المستقيم وينظر بنور الله - تعالى - يلحظ المعاني أولاً، فيطلع على حقائقها، ثم يلاحظ الأسامي، فإنها وضعت دالة على المعاني، فالمعاني هي الأصول، والألفاظ هي التوابع، ومَن يطلب الأصول من التوابع لا بد وأن يزل، وإذا دامت التقوى، وقوي التصديق بما في العاقبة من الحسنى تيسر الصبر؛ ولذلك قال - تعالى -: ﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ﴾ [الليل: 5 - 7]، ومثال هذه القسمة قدرة المصارع على غيره، فإن الرجل القوي يقدر على أن يصرع الضعيف بأدنى حملة وأيسر قوة، بحيث لا يلقاه في مصارعته إعياء ولا لغوب، ولا يضطرب في نفسه ولا ينبهر، ولا يقوى على أن يصرع الشديد إلا بتعب، ومزيد جهد، وعرق جبين؛ فهكذا تكون المصارعة بين باعث الدين وباعث الهوى، فإنه على التحقيق صراع بين جنود الملائكة وجنود الشياطين، ومهما أذعنت الشهوات وانقمعت، وتسلط باعث الدين واستولى، وتيسر الصبر بطول المواظبة، أورث ذلك مقام الرضا.
اعلم أن جميع ما يلقَى العبدُ في هذه الحياة لا يخلو من نوعين: أحدهما هو الذي يوافق هواه، والآخر هو الذي لا يوافقه، بل يكرهه، وهو محتاج إلى الصبر في كل واحد منهما، وهو في جميع الأحوال لا يخلو عن أحد هذين النوعين، أو عن كليهما؛ فهو إذًا لا يستغني قط عن الصبر:
النَّوْعُ الأول: ما يوافقُ الهوى؛ وهو: الصحة، والسلامة، والمال، والجاه، وكثرة العشيرة، واتساع الأسباب، وكثرة الأتباع والأنصار، وجميع ملاذ الدنيا، وما أحوج العبد إلى الصبر على هذه الأمور؛ فإنه إن لم يضبط نفسه عن الاسترسال، والركون إليها، والانهماك في ملاذها المباحة منها، أخرجه ذلك إلى البطر والطغيان... فالصبر على الطاعة شديد؛ لأن النفس بطبعها تنفِر عن العبودية، وتشتهي الربوبية؛ ولذلك قال بعض العارفين: ما من نفسٍ إلا وهي مضمرة ما أظهر فرعون من قوله: ﴿ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ﴾ [النازعات: 24]، ولكن فرعون وجَد له مجالاً وقبولاً فأظهره؛ إذ استخفَّ قومَه فأطاعوه، وما من أحد إلا وهو يدَّعِي ذلك مع عبده وخادمه وأتباعه، وكل مَن هو تحت قهره وطاعته، وإن كان ممتنعًا من إظهاره، فإن استشاطته وغيظه عند تقصيرهم في خدمته واستبعاده ذلك، ليس يصدر إلا عن إضمار الكبر ومنازعة الربوبية في رداء الكبرياء، فإذًا العبودية شاقة على النفس مطلقًا... فما أحوج العبد إلى الصبر عن المعاصي، وقد جمع الله - تعالى - أنواع المعاصي في قوله - تعالى -: ﴿ وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ﴾ [النحل: 90]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((المهاجر مَن هجر السوء، والمجاهد مَن جاهد هواه))، والمعاصي مقتضى باعث الهوى... وأشد أنواع الصبر: الصبر عن المعاصي التي صارت مألوفة بالعادة، فإن العادة طبيعة خامسة، فإذا انضافتِ العادة إلى الشهوة تظاهر جندان من جنود الشيطان على جند الله - تعالى - فلا يقوى باعث الدين على قمعِها، ثم إن كان ذلك الفعل مما تيسَّر فعله كان الصبر عنه أثقل على النفس؛ كالصبر عن معاصي اللسان)؛ انتهى.
حاول - يا مسلم - أن تُرضِي نفسك، فلن يأتيك إلا ما كتبه الله - تعالى - لك، واعلم أن صبر النفس مرتبط بالقلب والروح والعقل، وهذا بخلاف صبر البدن، فكلما صبر قلبك على الحزن، وكلما صبرت رُوحُك على الألم، وكلما صبر عقلُك على التفكير بمقدرات الله - تعالى - أصبحتْ نفسُك صابرة راضية لن تغلبها الشهوات والوساوس، درِّب نفسك على الصبر بالرضا بقضاء الله؛ قال - تعالى -: ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا ﴾ [الحديد: 22]، "جفَّ القلم، رفعت الصحف، قضي الأمر، كتبت المقادير، ﴿ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا ﴾ [التوبة: 51]، ((ما أصابك لم يكن ليخطئَك، وما أخطأك لم يكن ليصيبَك))، إن هذه العقيدة إذا رسخت في نفسك وقرَّت في ضميرك، صارت البلية عطية، والمحنة منحة، وكل الوقائع جوائز وأوسمة، ((ومَن يُرِدِ الله به خيرًا يُصِبْ منه))، فلا يصيبك قلق من مرض، أو موتِ قريب، أو خسارة مالية، أو احتراق بيت، فإن الباري قد قدَّر، والقضاء قد حل، والاختيار هكذا، والخيرة لله، والأجر حصل، والذنب كفِّر، فهنيئًا لأهل المصائب صبرهم ورضاهم عن الآخذ المعطي، القابض الباسط، ﴿ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ﴾ [الأنبياء: 23]، ولن تهدأ أعصابك، وتسكن، وتذهب وساوس صدرك، حتى تؤمن بالقضاء والقدر، جف القلم بما أنت لاقٍ، فلا تذهب نفسُك حسراتٍ، لا تظنَّ أنه كان بوسعك إيقاف الجدار أن ينهار، وحبس الماء أن ينسكب، ومنع الريح أن تهب، وحفظ الزجاج أن ينكسر، هذا ليس بصحيح على رغمي ورغمك، وسوف يقع المقدور، وينفُذ القضاء، ويحل المكتوب، ﴿ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾ [الكهف: 29]، استسلم للقَدَر قبل أن تطوَّقَ بجيش السخط والتذمُّر والعويل، اعترفْ بالقضاء قبل أن يدهمك سيل الندم، إذًا فليهدأ بالك إذا فعلت الأسباب، وبذلت الحيل، ثم وقع ما كنت تحذر، فهذا هو الذي كان ينبغي أن يقع، ولا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدَرُ الله وما شاء فعل"[2].
قال - تعالى -: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 155]، وقال - تعالى -: ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10]؛ فعند فَقْد الأولاد ومَن تحب، فإن القلب يكون حزينًا، والروح تائهة، والعقل مشتت، ولكن إذا ملكتَ نفسَك كل هذا أمام فضل الله - تعالى - في قضائه وثوابه العظيم عند الحساب، لانتصرتَ على الحزن والتشتت، وتعود الروح إلى سكنها، وتهدأ الأعصاب، وتغلب الصبر على الفقدان؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يقول الله - تعالى -: ما لعبدي المؤمن عندي جزاءٌ إذا قبضت صفيَّه من أهل الدنيا ثم احتسبه، إلا الجنة))؛ (رواه البخاري)، وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن النساء قلن للنبي - صلى الله عليه وسلم -: اجعل لنا يومًا، فوعظهن، وقال: ((أيما امرأة مات لها ثلاثة من الولد كانوا لها حجابًا من النار))، قالت امرأة: واثنان؟ قال: ((واثنان))؛ (متفق عليه)، فلن نجد أفضل من صبر النفس؛ لأنه يؤدِّي إلى الجنة.
صبر النفس والنصر:
ومن هنا نستنتجُ أن لصبرِ النفس دورًا عظيمًا في النصر على الأعداء، ومنهم بنو صِهْيَون؛ حيث إن الإنسان لن يخذل الله - تعالى - في أن يرمي بأولاده وأحبابه في ميادين القتال لنصرة دين الله - تعالى - ولن يتردَّد أن يفقد أحبابَه إذا لم يكن هو قادرًا على القتال، فالمسلم يقدِّم حبيبه للموت ليكون شهيدًا في الحرب، ولن يفكر بُرْهَة في أن يستسلم لقضاء الله - تعالى - عند فَقْد صفيِّه؛ لأن المقابل عظيم، وهو الجنة، الجنة التي نحيا من أجلها، ونصلي من أجلها، ونزكي من أجلها، ونحجُّ من أجلها، ونطيع الله - تعالى - من أجلها، ونصبر من أجلها، فصبر النفس طريق النصر.
وتذكر - يا مسلم - أن صبر النفس لا يقوى إلا بنوازل الدنيا، وأحزان القلب، وأوجاع الروح، وتشتُّت العقل، فدرِّب نفسك على الصبر، حتى تصبر نفسك لتستخدمها وقت الحرب وفي ميدان المعركة أنت ومَن تحب، فلن يخذلك الله - تعالى - لأن الأجر عظيم، والثواب كبير، والجنة في انتظارك، فكلما كان البلاء عظيمًا، كان لنفسك يقينٌ بأن النصر واقع لا محالة، أو الشهادة لا محالة، فانصرْ نفسك بصبر نفسك.
واعلم أن ما عند الله - تعالى - عظيم؛ لأن ما عند الله - تعالى - باقٍ، ﴿ مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 96]، فهذا فيه بيان بحُسن الجزاء بأحسن الأعمال، فاليقين بحسن الجزاء وتحصيل الأجر من عوامل تخفيف مرارة المصيبة والبلاء على النفس، وكلما كان اليقين قويًّا كان الصبر قويًّا... فمتى عَرَف وعَلِم الإنسانُ أن هذه الأشياء لا بدَّ أن تقع كما قدَّر الله - تعالى - استراح قلبه، وساعده ذلك على صبره على بلائه؛ لأنه إذا صبر نفذت فيه المقادير وله الأجر، وإن لم يصبر نفذت فيه المقادير وعليه الوزر"[3]؛ فمَن تعوَّدت نفسُه على الصبر فلن يتردَّد في تقديم مَن يحبُّ لنصرةِ الدِّين في أوقات الحرب.
هل تعلم - يا مسلم - أن المكروهَ والبلاء للنفس يعدُّ أمرًا في مصلحة النفس، قال شيخنا ابن القيم - رحمه الله تعالى - في الفوائد: (فعامة مصالح النفوس في مكروهاتها كما أن عامة مضارها وأسباب هَلَكتها في محبوباتها، فانظر إلى غارس حبَّة من الحبات خبير بالفلاحة، غرس حبة، وتعاهد بالسقي والإصلاح، حتى أثمرت أشجارها فأقبل عليها بفصل أوصالها، وبقطع أغصانها؛ لعلمه أنها لو خلِّيَت على حالها لم تَطِبْ ثمرتها، فيطعمها من شجرة طيبة الثمرة، حتى إذا التحمت بها واتحدت وأعطت ثمرتها، أقبل يقلِّمها، ويقطع أغصانها الضعيفة، التي تذهب قوَّتها، ويُذِيقها ألَمَ القطع والحديد لمصلحتها وكمالها؛ لتَصلُح ثمرتُها أن تكون بحضرة الملوك، ثم لا يَدَعها ودواعي طبعِها من الشرب كل وقت، بل يعطشها وقتًا، ويسقيها وقتًا، ولا يترك الماء عليها دائمًا، وإن كان ذلك أنضر لورقها، وأسرع لنباتها، ثم يعمد إلى تلك الزينة التي زيِّنت بها من الأوراق فيُلقِي عنها كثيرًا منها؛ لأن تلك الزينة تحُول بين ثمرتها وبين كمال نضجها واستوائها، كما في شجر العنب ونحوه، فهو يقطع أعضاءها بالحديد ويقطع عنها كثيرًا من زينتها، وذلك عين مصلحتها، فلو أنها ذات تمييز وإدراك كالحيوان، لتوهَّمت أن ذلك إفسادٌ لها وإضرار بها، وإنما هو عين مصلحتِها.
وكذلك الأب الشفيق على ولده، العالم بمصلحته، إذا رأى مصلحته في إخراج الدم الفاسد عنه، بضَّع جلده وقطع عروقه، وأذاقه الألم الشديد، وإن رأى شفاءه في قطع عضو من أعضائه، كل ذلك رحمة به وشفقة عليه، وإن رأى مصلحته في أنه يُمسِك عنه العطاء لم يُعْطِه، ولم يوسِّع عليه؛لعلمه أن ذلك أكبر الأسباب إلى فساده وهلاكه، وكذلك يمنعه كثيرًا من شهواته؛ حمية له ومصلحة، لا بخلاً عليه.
فأحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين، وأعلم العالمين، الذي هو أرحم بعباده منهم بأنفسهم، ومن آبائهم وأمهاتهم، إذا أنزل بهم ما يكرهون كان خيرًا لهم من ألا ينزله بهم؛ نظرًا منه لهم، وإحسانًا إليهم، ولطفًا بهم، ولو مكِّنوا من الاختيار لأنفسهم لعَجَزوا عن القيام بمصالحهم، علمًا وإرادة وعملاً، لكنه - سبحانه - تولَّى تدبير أمورهم بموجب علمه وحكمته ورحمته، أحبوا أم كرهوا، فعَرَف ذلك الموقنون بأسمائه وصفاته، فلم يتَّهِموه في شيء من أحكامه، وخفي ذلك على الجهَّال به وبأسمائه وصفاته فنازعوه تدبيرَه، وقدحوا في حكمته، ولم ينقادوا لحكمه، وعارضوا حكمه بعقولهم الفاسدة، وآرائهم الباطلة، وسياساتهم الجائرة، فلا لربهم عَرَفوا، ولا لمصالحهم حصلوا)؛ انتهى.
صبر النفس واجب على كل مسلم؛ لأنه سبيل كل الواجبات التي أنزلها الله - تعالى - وقد عرَّف العلماء الصبرَ في اللغة بأنه الحبس، وفي الشرع حبس النفس على ثلاثة أمور:
الأول: طاعة الله - تعالى.
والثاني: عن محارم الله - تعالى.
والثالث: على أقدار الله - تعالى - المؤلمة.
وبهذا التعريف يتبيَّن أن الأمر الأول والثاني مرتبطٌ بصبر الأبدان وصبر النفس معًا، والأمر الثالث مرتبط بصبر النفس فقط، فأقدار الله - تعالى - المؤلمة لا تحتاج إلى صبر البدن، بل تحتاج إلى صبر النفس؛ لأن القلب والروح والعقل هي ما يتأثَّر بأقدار الله - تعالى - كفقدِ حبيبٍ، أو فقد مال، فهذا يحتاج إلى صبر النفس حتى لا يجزع المسلم، ولا يتحدث اللسان بما يُسخِط الله - تعالى - ولا يفعل بجوارحه ما يُغضِب الله - تعالى - ولا يكون في قلبه شيء على الله - تعالى - ويكون منشرحَ الصدر بهذه المصيبة ويرضى بها رضاءً تامًّا، وكأنه لم يُصِبْه شيء، ومِن أقدار الله - تعالى - نزولُ الفقر على المسلم، فهنا تقومُ النفس منتفضةً تكلِّم الجوارح بالصبر، وعدم الجزع، والرضا بهذا الأمر، والصبر على بُعْد حبيب من الأقدار المؤلمة أيضًا؛ لذلك فإن النفس تُمسِك عن الانفلات، ومِن الأقدار المؤلمة الإهانة والذل، ولكن النفس تمسك عن الغضب، ولا تنزلق تحت تبعات الشيطان، فتعطي للجوارح رسالة مُفَادها أن الله - تعالى - قادرٌ على كل شيء، وتتخذ الرسول - صلى الله عليه وسلم - قدوة، فقد قال الله - تعالى - له: ﴿ وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا ﴾ [المزمل: 10]، وقال - تعالى -: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 155]، فالخوف هنا يدخل تحت أنواع البلاء، ويحتاج إلى صبر النفس، لا صبر البدن؛ لأن الخوف اقشعرار القلب وارتجافه؛ لفقده الأمن، وهو أعظم من الجوع.
وإذا سألني سائل: ما علاقة الصبر على الخوف بالنصر على الأعداء؟
أجيب بكل يسر: إن الصبر على الخوف بأن يمتلك الإنسان قلبه، ولا ينظر إلى ما يقدره الله - تعالى - له، فإن القلب ينبض ويتحرك، ولا يضره أذى أو ارتجاف أمام الأعداء، فترى الإنسان واقفًا في ميدان المعركة كالأسد الجسور، فلا ينظر إلى الأهوال وعظام الأمور، فيتقبل الموت بصدر رحب يهاجم الأعداء دون خوف أو تردُّد.
وإذا سألني سائل أيضًا، وقال: هناك من الأقدار المؤلمة التي هي في الأصل تحتاج إلى صبر الأبدان؛ كالمرض، أو الأذى الذي يحدث للبدن؛ كاصطدامه بشيء، أو شوكة يشاكها، فماذا تقول في ذلك؟
أجيب قائلاً: بأن هذا النوع من الأقدار يحتاج بشدة إلى صبر البدن، ولكن كما قلتُ سابقًا - وسأوضح ذلك لاحقًا في النوع الثاني من الصبر وهو صبر البدن - إن صبر الأبدان يحتاج إلى صبر النفس؛ لأن النفس هي التي تساعده وتعينه، لأنها هي التي تحدِّثه بالإمساك عن ألمه، وعدم الجزع حتى تخف الآلام والأوجاع بالبدن؛ لأنه بدون صبر النفس لا يمكن للبدن أن يستمر في الإمساك عن الأوجاع، فالنفس هي المفتاح لصبر البدن، فضلاً عن أنها هي التي تتحدَّث مع البدن في مصابه، وتخفِّف عنه الآلام، وهذا يشبه احتياج الإنسان إلى داعٍ يدعوه إلى الخير، فصبر النفس هو الصديق لصبر البدن.
تذكَّر - يا مسلم - أن لصبرِ النفس عليك حقًّا، فهو الوقاية والحماية والدرع والسلاح أمام الأعداء في ميدان المعركة، وعلى رأسهم بنو صهيون.
[1] إحياء علوم الدين للغزالي.
[2] لا تحزن للدكتور عائض القرني.
[3] الصبر في ضوء الكتاب والسنة لابن الحقيل. |
| |